بقلم: خالد حريب الرحيل المباغت للصديق المناضل سيد فتحي، أتعامل معه كعنوان عريض لجيل مهم في الحركة الوطنية المصرية، إنهم أبناء الثمانينيات والتسعينيات، ذاك الجيل الذي يُعبر عنه المحامي والمناضل الراحل بجدارة وامتياز. فقد ولد هذا الجيل كفاصلة بين مرحلتين، لم يعيشوا زخم السبعينيات بوهج الحرب، ومقاومة كامب ديفيد، وانتفاضة 1977م، والتنظيم الحزبي المتماسك، وفي ذات الوقت لا يمكن اعتبارهم من أبطال ثورة التكنولوجيا والمعلومات التي ولدت بدايات 2000 م، وجاءت منها شرارة يناير 2011م. ولذلك تأتي عبقرية هذا الجيل الذي ناضل في ظروف بائسة، فعندما كان الواقع السياسي رخوًا، وكان القابض على النضال كالقابض على الجمر، جاء هذا الجيل بإمكانيات بسيطة؛ ليصل التاريخ ببعضه، ويمهد الطريق بكل ما أوتي من قوة، مطمئنًا على قدوم الفجر في موعده. سيد فتحي واحد من هؤلاء، ابن مخلص لتنظيم صغير العدد، كبير المعنى، لم يفقد ثقته مطلقًا في قدرة الشعب المصري على الثورة والانتصار؛ لذلك لم يكن غريبًا أن ترى سيد فتحي في وقفة احتجاجية تضم مجرد عشرات المشاركين، يقدمون المثل والتجربة والبروفة الأولى للثورة، بعضنا لم يكن يحلم بأن هؤلاء العشرات سيتناسخون ليمتلئ بهم ميدان التحرير يومًا ما، ولكن العجيب هو ثبات وثقة سيد فتحي المحامي، دقيق الجسد والرؤية. وعلى سبيل المثال.. كنا معًا فيما اعتقد 2006 م، يرافقنا نشطاء بدار القضاء العالي، نتقدم ببلاغ ضد انتهاكات الشرطة، وتحويل الأقسام إلى سلخانات، وبعد التقدم بالبلاغ، وقفنا على سلم دار القضاء الشهير نهتف ضد الفساد والاستبداد، ويتلقف سيد فتحي الهتاف صارخًا: “,”التعذيب فَ أقسام الشرطة.. يُسقط حكم ويُسقط سلطة“,”.. وأنا أعتبر أن هذا الهتاف المبكر، الذي هو ملكية خالصة لسيد فتحي، كان بمثابة النبوءة لزوال دولة الطغيان، وهو ما حدث بالفعل بعدها بسنوات في يناير 2011 م، والذي كان بدايته التضامن مع قضية شهيد التعذيب خالد سعيد، وبعدها تدحرجت كرة الثلج؛ فسقط مبارك وسلطته. نرجع إلى مرارات جيل سيد فتحي، ربما أهمها هي العمل المتواصل في ظلام الواقع، دون أية إشارات مبشرة باقتراب موعد النصر؛ وهو الأمر الذي أصاب الكثيرين بالإحباط، فضلاً عن تعرض هذا الجيل للملاحقات الأمنية المتواصلة، وسجن معظمهم دون أية ردود فعل تضامنية من قطاعات المجتمع، وإذا زدنا على ذلك التضييق في لقمة العيش، فسنعرف إلى أي مدى عانى سيد فتحي وأبناء جيله، وسنعرف أيضًا من أي سبيكة تشكل هذا الجيل؛ لذلك أستطيع الآن أن أشير بوضوح إلى ضرورة التفريق بين الثوار والمستثورين، فالفارق كبير، كان سيد فتحي ثائرًا حقيقيًّا، لم يسع خلف أية إغراءات مادية، وعاش حياته بسيطًا وسعيدًا وراضيًا بالقليل. جاء خبر وفاته صاعقًا للجميع، وكان طبيعيًّا أن نشهد كل الأحزاب التقدمية وهي تقدم نعيها للشعب المصري لرحيل محامي شهداء الثورة، كما كان طبيعيًّا أن نشهد جنازة وداعه، التي خرجت من نقابة المحامين، قلعة الحريات، وهي تضم كل ألوان الطيف اليساري، حزينة تودع سيد فتحي بالدموع، حتى أن بعض القادة قد انهارت قواهم أمام مشهد وداع البطل الشاب. لم يؤلم ذلك البطل الذي رحل إلا أن يبيت مظلومٌ في سجن القهر؛ لذا كان ونفر قليل معه يواصلون الليل بالنهار من أجل نُصرة ذلك المظلوم، فكان مكتبه (مكتب الهلالي للحريات) كعبة للمظاليم، وما شهدناه من دفاع قانوني لسيد فتحي، ورفاقه من المحامين الأجلاء، في قضية عمال المحلة 2008م، إلا مجرد مثل بسيط للالتزام الوطني والانحياز الاجتماعي. يومًا ما سأكتب عنك يا سيد كما يليق بروحك العظيمة، وبرفيقة دربك، أختنا عبير سيد إسحق، وبابنتك الجميلة “,”لينا“,”، التي تركتها للوطن كوردة يسعِد المخلصين رؤياها.