إذا كان سؤال الحرية والأمن لا يخلو من توتر بل وتصادم في بعض الأحيان كما يتجلى في الواقع العالمي والجدل الثقافي والفلسفي في دول عديدة فإن السؤال الذي قد ينبع من واقع اللحظة المصرية بتحدياتها الجسام:"هل بمقدور المصريين الذين ابهروا العالم بثورتهم الشعبية الإجابة على سؤال الحرية والأمن بصورة تبهر العالم مجددا"؟!. وحول معضلة "الحرية والأمن" قالت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في كلمة أمام أعضاء البرلمان في بلادها أن أهم أسباب هذه المعضلة تلك النزعة نحو وضعهما موضع مجابهة وكأن العلاقة بين الحرية والأمن ينبغي ان تكون متوترة دوما مع ان الصحيح والواجب اقامة توازن بينهما بالحق وعبر الحقوق والقوانين معا بعيدا عن هذه النزعة التصادمية بين الحرية والأمن . ومن الصعوبة بمكان أن ينكر أي شخص يتحمل مسؤولية سياسية بل ويتحلى بالمسؤولية الأخلاقية الأهمية الجوهرية للأمن لحماية المواطنين وخاصة في السياق الزمني لما يعرف بعصر التهديدات اللامتناظرة والتي تعد هجمات 11 سبتمبر 2001 افضل مثال لها غير ان المحك يبقى دائما مرتبطا بمسألة "الحق" والالتزام بعدم العدوان على الحقوق لأن هذا العدوان يقوض الثقة المطلوبة بين المواطن ورجل الأمن ومن ثم فهو كفيل باهدار الحرية والأمن معا. وهنا كما تقول انجيلا ميركل فإن السؤال ليس عن اهمية الأمن ولايجوز ان يطرح اصلا حول هذه الأهمية التي لاشك فيها وانما السؤال الواجب يكون حول نوع الخطر والسبل التي نختارها لدرء هذا الخطر وفي كل الأحوال فالحكومة مسؤولة عن حماية المواطنين من شرور العنف وكل انواع الجرائم كما هي مسؤولة عن حماية الحياة الخاصة للمواطن. وبهذا المعني فإن الحكومة في الدولة الديمقراطية تعزز عنصر "الثقة" وهو العنصر الذي بات يكتسب المزيد من الأهمية سواء داخل المجتمع الواحد أو على مستوى العلاقات الدولية والمسائل المتصلة بالسلام والصداقة بين الشعوب . وهكذا تتخلق معادلة صحية في العلاقة بين الحرية والأمن والثقة ويبذل المثقفون والساسة في الغرب جهودا مقدرة لإزالة التناقضات الظاهرة أو المصطنعة بين الحرية وبين الأمن فيما يفرز الواقع العملي تحديات من حين لآخر تجابه العلاقة السوية والمفترضة بينهما وقد يستغل البعض من اعداء الديمقراطية هذه التحديات لترسيخ التصور الخاطيء حول استحالة التعايش بين قيمتي الحرية والأمان. وانخراط جماعة لم تمانع في التدثر بدثار الديمقراطية وهي تتبنى في الواقع صيغة : "نحكمكم او نقتلكم" في أعمال العنف وممارسات الإرهاب يبرهن مجددا على أن هذه الجماعة تتخذ العنف والإرهاب نهجا أصيلا في اللحظة المصرية الراهنة تماما كما استخدمته في ظل هذه الصيغة الباغية اثناء صدامها مع قيادة ثورة 23 يوليو وهو الصدام الذي بلغ حد العمل على اغتيال زعيم هذه الثورة في عامي 1954 و1965. والتمعن في جوهر الصيغة الباغية لتلك الجماعة في سياق تعاملها مع الشعب المصري :"نحكمكم او نقتلكم" دال في كشف" طابعها الاستعماري الداخلي" بقدر ماهي مرتبطة تاريخيا مع قوى الاستعمار الخارجي القديم والجديد. ولعل أحد أهم تحديات اللحظة المصرية الراهنة يتمثل في كيفية الحفاظ على قيمة الحرية التي كانت في جوهر مطالب الثورة الشعبية بموجتيها 25 يناير-30 يونيو مع الحفاظ على الأمن ومواجهة تلك الجماعة الباغية التي تريد "فرض استعمارها" على الشعب المصري لتصل بالصراع لحد يصل للوجود المصري ذاته. فالجماعة في خضم ممارسات العنف والارهاب "انما تسعى لتغيير الوجود المصري تغييرا أساسيا" وتغيير "الماهية المصرية" ومن ثم فإن مواجهة تلك الجماعة يرقى لمستوى الدفاع عن الوجود وحماية الذات المصرية من خطر استعماري داهم. المسألة ليست "معركة عقلية بين وجهتي نظر" وإنما مواجهة مع جماعة تريد فرض استعمارها الداخلي في مصر لتنفيذ مشروع عميل للاستعمار الخارجي وقوى الهيمنة العالمية وهي لا تتورع عن استخدام القوة المادية للعنف والارهاب بغرض استعادة حكمها الاستحواذي الذي أسقطه شعب مصر في ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في لحظة مجد لم يتردد فيها الجيش الوطني في الانحياز لإرادة شعبه والائتمار بأمر الشعب وحده تماما كما انحاز لهذا الشعب العظيم في ثورة 25 يناير 2011. وتأمل "خطاب الجماعة الباغية" يكشف عن مدى "روح الشر حيال الغالبية الشعبية المصرية والعداء للقيم المصرية وطريقة الحياة التي ارتضاها المصريون لأنفسهم عبر تاريخهم المديد" لتؤكد الجماعة بأفعال العنف وممارسات الإرهاب حقيقتها "كعنصر متلف يحطم كل ما يقاربه ويشوه كل ما له صلة بالجمال أو الأخلاق " فإذا بها فئة ظالمة لا سبيل لإصلاحها وإذا بالعنف والإرهاب علامة انحطاطها الأخلاقي وخوائها الثقافي. فالفساد قائم في جوهر تكوينها ويكشف عنه تهليلها لأعمال القتل والإرهاب وفرحتها الظاهرة بأي مكروه يلحق بمصر والمصريين فيما يدل ذلك كله على أنها اختارت "المفاصلة بينها وبين جموع المصريين الذين تريد التسلط عليهم واستعمارهم بشعارات دينية والدين منها براء". والعنف المجنون الذي تهلل له تلك الجماعة الباغية كاشف عن نظرتها للمصريين "كمجرد اشياء في ارض تريد استعمارها فيما بصائر المنخرطين في اعمال العنف والارهاب عميت عن قراءة المعنى الانساني في الوجوه المستهدفة بالقتل والترويع". ولايختلف تفكير الجماعة الباغية والمرتبطة بالاستعمار الجديد في هذا السياق عن تفكير الاستعمار القديم عندما عمد تاريخيا لتجريد الشعوب المستعمرة من انسانيتها وكما كانت المواجهة مع الاستعمار الخارجي تعكس رغبة الشعب في تأكيد انسانيته فان مواجهة هذه الجماعة لن تكون الا انتصارا لانسانية هذا الشعب وقيمته الأساسية وهي "الأرض" لأنها القيمة المحسوسة الملموسة التي تكفل الخبز والكرامة معا للمصريين. غير أن شحذ أسلحة المواجهة مع الجماعة الباغية والفكر الظلامي والتكفيري لايجوز بأي حال من الأحوال أن يعني التقهقر إلى وراء على صعيد الحرية وحقوق الإنسان لأن هذه المواجهة في جوهرها هي دفاع عن الحرية والإنسانية ودرءا لمخاطر نمط استعماري داخلي يهدد بنية الوجود المصري وخصائص الثقافة الوطنية المصرية. ولن يكون الأمر مثيرا للتساؤل أو الدهشة عندما تتحسس العناصر المنخرطة في العنف والإرهاب خناجرها وتشهر أسلحتها لدى سماعها أي حديث يتصل بالثقافة الوطنية لأن هذه الثقافة تشكل الأساس الراسخ للحياة المصرية التي يستهدفها العنف والإرهاب. وهذه الثقافة المستهدفة بعدوان العنف والإرهاب وعملاء الاستعمار الجديد كانت النبع النقي للثورة الشعبية السلمية التي أبدعها المصريون في موجتي 25 يناير و30 من يونيو بقدر ما كانت الجماعة الباغية هي النبع الشرير للعنف في الموجتين. وواقع الحال أن الجماعة رأت في موجة 30 يونيو على وجه الخصوص "عالمها برمته ينهار واحلامها في استعمار مصر قد ذهبت ادراج الرياح" وهذه الحقيقة تفسر اطلاق العنان بجنون للعنف الأعمى والارهاب ضد "شعب اسقط استعمار الجماعة كما اسقط من قبل الاستعمار القديم". وإذا كانت الجماعة الباغية تتعامل مع جموع المصريين باعتبارهم من "الأغيار" ومجرد "اشياء" في ارض تحلم باستعمارها ضمن مشروعها العميل للاستعمار الجديد وقوى الهيمنة العالمية فان للمثقفين الوطنيين المصريين ان يقدموا المزيد من الابداع لشعبهم الذي يخوض الآن مواجهة الدفاع عن الوجود والهوية المصرية. وللحقيقة وحدها فان المثقفين كانوا طليعة ثورية في مواجهة الحكم الاستعماري الاستحواذي للجماعة الباغية ونهضوا بدور سيتوقف امامه التاريخ طويلا عندما يحين الوقت لتأريخ تلك اللحظات المجيدة التي هب فيها شعب مصر ليسقط حكم الجماعة يوم الثلاثين من يونيو 2013. والموجة الثانية للثورة الشعبية المصرية كانت تعني انتصار الشخصية الإنسانية لمصر والهوية المصرية والانتصار على "هؤلاء الذين ارادوا تحويل المصريين الى اشياء او دمى لاحياة فيها ولالون لها سوى لون الجماعة الباغية وارادتها الاستحواذية للتمكين لمشروعها الاستعماري". وسؤال الحرية والأمن المرتبط على وجه الخصوص بمعركة تصفية "فلول الجماعة التي ارادت فرض استعمارها الداخلي لمصر" مرتبط جوهريا بالسؤال الكبير :"اي مصر نريد؟!" ولن يجيب عليه سوى شعب مصر الذي لايدعي انه يمتلك الحقيقة ولايزعم انه الحقيقة لأنه الحقيقة في وجوده ذاته !. واذا كان هذا الوجود الذي هو عين حقيقة المصريين مهدد بجماعة ارتبطت بالاستعمار الجديد وذلك الكيان الذيلي على الخارطة العربية الذي ارتضى لنفسه القيام بدور "خادم الشيطان" فان معركة الدفاع عن الوجود المصري لن تكون الا معركة انسانية تحمي الحرية بقدر ماتحفظ الأمن وتحترم حقوق الانسان بقدر ماتتصدى للمخاطر التي تهدد الانسان المصري. وكما يقول المثقف الثوري الراحل والفيلسوف والمناضل من أجل الحرية وابن جزر المارتنيك فرانز فانون فان الكفاح متعدد الأشكال وعلى المثقف الحقيقي "ان يرى الكل في كل وقت" ولايجوز ان يستسلم للشك او اليأس اذا وقع اخفاق ما في جزء من المشهد الكلي. ولسوف يكون بمقدور شعب مصر في خضم نضاله ضد "الجماعة الباغية والاستعمار بكل اشكاله" ان يبدع معادلته في الحرية والأمن على أساس حقه في الكرامة والخبز ولن تكون ثورته إلا ثورة إنسانية متحررة من العنف وبريئة من شهوة إراقة الدم. ثورة لديها رحابة التسامح الانساني مع كل من لم تتلوث يداه بالدماء وانخرط باخلاص في مسيرة صنع "الزمن المصري الجديد"..ثورة توقف "الزمن الميت للاستعمار الداخلي وعملاء الاستعمار الخارجي وقوى الهيمنة العالمية" وتحث الخطى في "الزمن المصري الجديد الذي يعلي قيمة الحرية ويحفظ الأمن"..ثورة مصرية تصنع التاريخ الذي لطالما صنعه المصريون.