بقراءة ما كتبته المفكرة والروائية الراحلة نوال السعداوى يجد المتلقى نفسه في المواجهة مع آراء جريئة تصطدم بما يدرسه، كانت سعداوى شديدة الجرأة، ولديها قدرة عجيبة على المواجهة، تفتح ملفات غاية الخطورة، فهى ترفض الختان، وتعرض لإخطاره التي يتضرر منها جسد الأنثى بشكل جاد، كانت تناقش مفاهيم الشرف والعذرية والأخلاق والتربية عند الفتيات، وتسرد وقائع حقيقية لمن قابلتهن وعبرن عن تلك المآسى التي عانين منها، جراء العادات المجتمعية الخاطئة. سعداوى كانت تمشى في طريق محفوفة بالمخاطر والأشواك، عرضت نفسها لانتقادات الجماعات الدينية ولا سيما المتطرفة التى توعدتها بالقتل، وتلقت الكثير من اتهامات بالكفر، لكنها لم تنشغل بمثل هذه العراقيل التي تستطيع أن توقف النهر عن التدفق، وتوقف المطر عن الهبوط بغزارة في المناطق القاحلة، هذه الشخصيات الجريئة والمتمتعة بعقول نقّادة قادرة على الاشتباك مع القضايا الأكثر حساسية، وتفكيك منطق الجماعة المعقد، الذى يناصر عادات وأفعالا مسيئة لأفراده، هذه الشخصيات تقابل أول ما تقابل عزلا اجتماعيا، يقوده رجال الدين، خاصة المنتمين لتيارات متطرفة، يشنون هجومًا عنيفًا على مبادئها وأخلاقها، حتى لا يستمع إليها الشباب، ولا يقرأ لها أحد، ولا يناصر قضاياها إنسان. كنت متخوفا مما أقرأه لها، لكنها كانت ماهرة في مخاطبة العقول، فالذى يقرأ لكتابات الدكتورة نوال يجد عذوبة ورقة بالغة، في الوقت نفسه لا تستسلم لمنطق التأثير على الناس بتحويراتها الأدبية وعباراتها الملفوفة بالرقة والحنان، هي تقدم آراءها في لغة رائقة مشفوعة بتصورات عقلية، وبصورة منطقية للغاية، وانشغلت في مؤلفاتها بالمرأة وكيفية تربيتها، وطرق المجتمعات الشرقية في حصار المرأة والضغط عليها لتظل حبيسة البيوت، فليس لها الحق في شىء، إلا في تجميل نفسها للرجل فقط، لكن خروجها للعمل ومنافسة الرجل على أعلى المناصب، يعتبر جريمة لا تغتفر، فهى -وفق تصورات تلك التيارات- عورة، يجب أن تتخفى ولا يظهر منها إلا العينان من وراء شاش رقيق يتيح لها الرؤية. في مذكراتها "مذكرات طبيبة" لمست قدرا كبيرا من الإنسانية، فما قيمة الطبيب عندما يتحول إلى تاجر، يبنى ثروته من آلام الناس، ويتعاظم جشعه أمام قلة حيلة المريض، فهى عندما تحركت ليلا لتجرى فحصًا طبيا لمريض بالدرن الرؤى يسكن حجرة صغيرة في بدروم، ممتلئة بالرطوبة، تنزعج ويصيبها الذعر عندما يسحب ذلك المريض من أسفل وسادته جنيها ويقدمه بيد نحيلة لها كأجر، فتشعر بأنها تفقد الوعي، وتستنكر أن يكون للطبيب أجر، وهذه رؤية مثالية للغاية لا يمكن تحقيقها لكنها على أى حال لا بد أن تبعث صحوة للشعور الإنسانى داخل القارئ، فينتبه لما يفعله، وكتاباتها على الدوام تنحاز للمشاعر الإنسانية تلك. هذا اللون الإنسانى الذي يؤطر ما تسرده داخل كل مقالاتها، حتى التى تؤجج فيها معاركا جديدة ضد ظلامية العادات والمعتقدات، نجده يتجدد مع تقدمها في العمر ولا يتوارى، ففي مقال لها نشرته مؤخرا بعنوان "عنب لذيذ في احتفال العام الجديد" تقول: " لم تعد الأنوار تبهرنى، ولا المهرجانات والجوائز، ولا الفساتين المكشوفة أو الشوارب المفتولة، لم يعد المديح يسعدنى، ولا الشتائم تؤلمنى، أفرح بفنجان شاى له طعم الشاى الحقيقى، وحبة عنب لها طعم العنب، أو قطعة طماطم لها طعم الطماطم، أو إنسان له طعم الإنسان، لم يعد لأى شىء في حياتنا طعمه الحقيقي، حتى الإنسان والصداقة والحب والوفاء بالوعد. لم أعد الفتاة الممشوقة، التي تسبح في البحر وتصعد فوق الأمواج، أصبحت أجلس على الشط، أمد ساقى بحرص في الماء، وأسحبها بسرعة، قبل أن تجرفنى الموجة، أمشى بحذر فوق الأرض، أتأكد من صلابتها تحت قدمى أخشى التعثر في طوبة، أو السقوط في حفرة، أو بالوعة مجارى، كنت أصحو مع شروق الشمس أغنى كالعصافير، وأطير للحب والصداقات، كان الحب يحوطنى، والصداقات تغرقنى، والأمل يملؤني، والطريق للسماء مفتوحا على مصراعيه أمامى". وفى مذكرات الطبيبة أيضا نقرأ شجاعة أنثى تستطيع أن تجالس رجلا بمفردها، حتى إذا أرادات أن تمنع نفسها عنه منعته، ولو كانا بمفرديهما، ولو أرادات أن تمنحه نفسها فهى قادرة على ذلك حتى لو كانا وسط جموع الناس، فتزرع ثقة كبيرة في قوة الفتاة الداخلية وليس كما يشاع عن ضعفهن وقلة حيلتهن. عارضت سعداوى الكثير من العادات وهاجمت أخلاق الرجل الشرقى الذى يرى في المرأة مصدرا رخيصا للمتعة، ووقفت بجوار الفتيات تزرع فيهن الثقة وتطالبهن بمزيد من النجاحات العلمية والمهنية، ساندت قضايا التمرد الفكرى وحرية الإبداع، ناقشت الأمور السياسية، واشتبكت مع الحق العربى الفلسطينى، وجادلت أفكار الجماعات المتطرفة، ترفض كل أشكال التمييز القائمة على أساس الدين أو العرق أو اللون، يمكننا القول أنها شهدت كثيرا قد تحقق مما طمحت إليه، بينما يظل الأكثر بحاجة لمزيد من التوعية بشأنه، لقد كانت مصدرا كبيرا من مصادر المعرفة لأجيال كثيرة من الشباب، عرفوا في مقالاتها وكتبها شجاعة المواجهة وجرأة التفكير، ورسموا لعقولهم الطريق ناحية التمرد والثورة على الأفكار القديمة، التى لا تصنع مجتمعًا مدنيًا راقيًا، بقدر ما تؤسس وترسخ لعبودية الإنسان للإنسان.