48 ساعة قضيتها في مدينة بورسعيد الباسلة، ضمن الوفد الإعلامي المرافق لوزارة الثقافة في إطار تدشين بورسعيد عاصمة للثقافة المصرية 2021، رأيت خلالها وجها آخر من تطوير وتنمية إحدى أهم المدن المصرية التي تتمتع بتاريخ لا يقل أهمية عن المدن العالمية بعدما دفع شعبها المناضل من دماء أبنائه ثمنا باهظا ليسترد كرامته في عدة حروب خاضها متحديا أعتى القوى الكبرى على وجه الأرض، فاستحق أن تبدأ من مدينته معركة موازية للمعارك الحربية التي دارت على ترابها، وهي معركة التنمية فتم تدشين منظومة التأمين الصحي الشامل منها، وحفر أنفاق 30 يونيو وغيرها من المشاريع الكبرى بهذه المدينة المحورية. يستنشق الزائر لبورسعيد، وعلى مشارف هذه المدينة البيضاء، نسمات العزة والكرامة، من اللحظة الأولى لوجوده بها، كما يستطيع أن يلمس الفارق الكبير، والتطور الملحوظ، الذي ينعكس على كل شبر من أرضها، فالحدائق في كل شارع من شوارع المدينة، والزهور على كل ناصية من نواصيها، والانسياب المروري سمة رئيسية في شوارعها، فيما تعمل إشارات المرور على سبيل المثال تعمل بشكل آلي دون تدخل بشري، في مشهد لا يقل بهاء عن أهم المدن الأوروبية الشهيرة، أما نظافة الشوارع وعدم تراكم القمامة بها فيزيد من جمال الطرق، بينما يضفي اللون الأبيض الموحد لمبانيها صفاء لا يقل عن صفاء قلوب سكانها. ذهبنا إلى بورسعيد لتتويجها عاصمة للثقافة المصرية طوال العام الحالي، وافتتاح عدد من المشاريع الثقافية، وفق برنامج ثري وضعته وزارة الثقافة، من خلال نحو 108 فعالية متنوعة تشمل كل مجالات الفنون والثقافة، لنكتشف نضوجا حقيقيًا لدى القائمين على هذا البرنامج، الذي تم وضعه بعناية فائقة، وتم دراسة كل تفصيلة به ليمنح المواطن البورسعيدي جرعة ثقافية وفنية لا تقل أهمية عن الجرعة التنموية التي يلمسها، وكانت البداية بعروض السمسمية التي تميز أبناء هذا الإقليم، ثم معرض للصور التذكارية يسرد ملحمة نضالية عاشتها مصر منذ عقود مضت، ثم حفلات فنية حاشدة قدمتها دار الأوبرا المصرية، تلى ذلك تكريم كوكبة من أبناء بورسعيد الأفذاذ. وعلى مدى يومين تم تدشين منفذ بيع هيئة الكتاب في مدينة بورفؤاد، كما تفقدنا حديقة فريال التاريخية، ومتحف النصر للفنون التشكيلية بما يتمتع به من أعمال فنية لا مثيل لها، وشاهدنا بعض المقابلات الخاصة بمشروع "ابدأ حلمك" المسرحي الذي تقدمه هيئة قصور الثقافة، لاكتشاف وتقديم جواهر جديدة من النجوم الصاعدين الذين يبحثون عن فرصة للظهور. إلا أن إعادة افتتاح "سينما مصر" بالحي الشعبي في بورسعيد كانت المفاجأة الحقيقية خلال زيارتنا لبورسعيد، وتوقفت كثيرا أمام كلمة سمعتها من أحد المخرجين الشباب في كلمته التي ألقاها أمام الدكتورة إيناس عبد الدايم وزير الثقافة واللواء عادل الغضبان محافظ بورسعيد، عندما قال "السينما دي شبهنا.. شبه ناسنا الطيبين". كانت بورسعيد فيما مضى مقسومة إلى نصفين، حي الإفرنج الذي يزخر بأفخم القصور ومن ثم دور السينما والمسرح وغيرها، والحي الشعبي الفقير الذي لم يعرف أبناؤه إلا "سينما مصر" التي تم افتتاحها عام 1949، وظلت عقودًا طويلة بمثابة متنفس الجمهور العادي، لتمتد لها يد الإهمال التي طالت غيرها منتصف التسعينات من القرن الماضي، قبل أن تنتبه الشركة القابضة للاستثمار في الصناعات الثقافية التي يشرف عليها الدكتور خالد عبدالجليل، إلى أهمية إحياء السينما لتقوم بدورها من جديد. ولعل المبهر في تطوير السينما لا يكمن في تجديد دار العرض بحد ذاته، فكم من تطوير يتم سنويا لدور السينما والمسرح وقصور الثقافة، عن طريق إسناد المهمة إلى إحدى شركات المقاولات وغالبا ما تستهلك النسبة الأكبر من الموازنة في السيراميك والرخام والأعمال الإنشائية الأخرى، وكم اشتكى المتخصصون في أوقات سابقة من ضعف إمكانيات خشبات المسارح وشاشات السينما رغم تكلفة المباني عشرات الملايين من الجنيهات، إلا أن تطوير هذه السينما جاء بالجهود الذاتية وبأيدي عمال الشركة القابضة أنفسهم، كانت الكراسي ممزقة والستائر مهملة والإضاءة مظلمة وطلاء الحوائط متساقطة، ومظاهر الإهمال واضحة، فتغير الأمر من النقيض إلى النقيض على أيدي عمال الشركة القابضة، وحرص المسئولون عن الشركة على استعادة روح السينما القديمة بنفس ملامحها، وجاءت الألوان في شكلها النهائي هادئة متناسقة وتكلف ترميم السينما مبلغا بسيطا انعكس ذلك في سعر التذكرة الذي بلغ 20 جنيها. لم يكن يتم هذا الأمر بهذا الشكل إلا إذا كان القائمون على الترميم لديهم رؤية وإستراتيجية واضحة حول ما يفعلون، وكانت المفاجأة التالية في عرض فيلم "بورسعيد" الذي أنتجه الفنان الكبير فريد شوقي بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر، لتخليد نضال الشعب البورسعيدي في مقاومة العدوان الثلاثي، وكما قام عمال الشركة القابضة بترميم السينما وفق رؤية واضحة، قام فنانوا الشركة بترميم الفيلم المهمل بشكل أبهر الحضور، وشاهدنا فيلما تسجيليا حول مراحل ترميم فيلم"بورسعيد"، وما حدث يعد خطوة في الاتجاه الصحيح للإسراع باستكمال خطوات إنشاء الشركة القابضة للسينما لتعالج الفراغ الذي خلفه انسحاب وزارة الثقافة من مجال الفن السابع خلال العقود الماضية، فتحية لكل من ساهم في نجاح تدشين بورسعيد عاصمة للثقافة المصرية خاصة من المكتب الإعلامي لوزارة الثقافة الذين وفروا لنا كل الإمكانيات لظهور هذا الحدث بالشكل اللائق، وعلى رأسهم الزميل محمد منير المستشار الإعلامي للوزير.