النص يتماهى مع المكان والزمان في تأسيس واضح لمفردة "الزمكانية" تظهر رغبته في الانسلاخ من المكان والزمان والعودة لقاهرة "نجيب محفوظ" سعيه للحب ما هو إلا امتصاص لرحيق زهرة كي يُنتج عسلاً في لغة سردية شفيفة تفيض بحمولتها الثقافية والشعرية، قدم لنا الناقد والروائي مصطفى بيومي روايته "يوم" محملة ببعض من سيرته الذاتية يروي فيها أحداث يوم من حياة كاتب بلغة مُشبِعة مُشَبَعة بالبساطة والشاعرية، وقد تُصنف هذه الرواية على أنها من "أدب السيرة" لما تحمله في طياتها من تفاصيل تشير إلى أن الراوي هو نفسه "بيومي" وذلك لتشابه واضح في كثير من التفاصيل معه، فمصطفى بيومي، ناقد تخصص في أدب نجيب محفوظ وله عدة إصدارات متعلقة بالبحث في عالمه ورواياته ومنها "أمريكا في عالم نجيب محفوظ"، و"السادات في أدب نجيب محفوظ"، والملوك و"الرؤساء والزعماء في أدب نجيب محفوظ"، وغيرها. في روايته "يوم" الصادرة عن مؤسسة "رهف للنشر والتوزيع"، يحدثنا الراوي عن فكرة الانتحار في عالم نجيب محفوظ ويقول (ينتحر الفقراء والأغنياء في عالم نجيب محفوظ، فالعامل العاطل المرهق بالأعباء يبحث عن الخلاص بمراودة الانتحار في قصة "جوع"، والمليونير الذي عصفت به أنواء البورصة، عبد الحميد بك شداد في "السكرية"، ينتحر يأسًا بعد السقوط في هاوية الإفلاس) يستشهد بيومي بمقولة مكسيم جوركي "إن الفقراء يؤمنون بالله لأنهم لا يملكون أي شيء سواه، والأغنياء بدورهم يؤمنون بالله لأنهم يملكون كل شيء سواه. فكرة الانتحار التي أكتب عنها قريبة من هذا المعنى، فالتخلص الإرادي من الحياة مطلب ضروري عند من تضيق بهم الدنيا وتتجهم لهم، وهو كذلك لمن يتشبعون إلى درجة التخمة فلا يجدون المعنى والمذاق" فيتراءى أمامنا سؤال ديالكتيكي.. هل كل مبدع يؤرخ لسيرته الذاتية في أعماله؟ وهل يمكن أن يكون راويًا لسيرته الذاتية بجرأة وحقيقية وأمانة وصدق للكشف عن مكنونات الذات؟ فعلى مدار أحداث "يوم" يجد القارئ أن (بيومي) تركه يتأرجح في تسمية هذا النص السردي، متسائلا: هل ما قدمه لنا "بيومي" رواية تحاكي التطور الحادث في عصرنا، ومواكبة لأسلوب حياتنا الذي اتسم بالسرعة المفرطة، رغم إسهابه في وهو يروي تفاصيل يوم واحد، جاءت الجملة رشيقة متلاحقة، قادرة على رسم "24 ساعة" فقط من حياة كاتبها. أم أن ما كتبه هو أقصوصة حسب تصنيف "ولتر جيمس ميلر" في دراسته للمقارنة بين الأقصوصة والرواية، حيث أورد أن الأقصوصة تحكي لنا حكاية حقيقية، أما الرواية فهي تقدم لنا حكاية وهمية تقترب من الحقيقة. والأقصوصة قد تكون فصلًا من رواية ولكن الرواية كيان متكامل، كما تكتفي الأقصوصة بعدد محدود من العناصر "شخصيات – أحداث – زمان – مكان"، في حين تستمد الرواية في الزمان كذلك الأقصوصة يمكن قراءتها في جلسة واحدة، لها حبكة واحدة وشخصيات محدودة وعناصر قليلة، عكس الرواية التي تحوى عناصر كثيرة، شخصيات أساسية وثانوية، تتعدد أقسامها و تتغير نبرة الراوي في كل قسم . في "يوم" جعل بيومي النص يتماهى مع المكان والزمان في تأسيس واضح لمفردة "الزمكانية"، حيث الارتباط الحميم بين الزمان والمكان في الرواية، فرغم صغر المساحة الزمانية ومحدودية الأماكن إلا أن الأحداث جاءت متلاحقة والأماكن صارت حميمة. جاء استخدام (بيومي) لأسلوب المتتاليات الزمنية على مدار اليوم وقيامه بوصف الأماكن بلغة ثرية متقنة ليجعل القارئ منشغلاً بتخيل الشوارع والأماكن التي وقعت فيها أحداث الرواية، ويولد لديه رغبة حقيقية في الذهاب والبحث عن الكاتب، فربما وجده جالسا في أحد الأماكن التي أشار لها ليروي له ماذا حدث بعد هذا ال "يوم"، الذي كان متخمًا بالأحداث في حياة صاحبه، بدءا من السابعة والربع صباحا وحتى الثانية عشر. الشخوص شخوص الرواية الرئيسيان، الراوي الكاتب الخمسيني الذي يعيش وحيدا سعيدا بوحدته كما جاء على لسانه في أكثر من مقطع (لا ثابت في الحياة أو راسخ إلا الوحدة الثقيلة التي إستمتع بها وأتعايش معها)، (تسعدني وحدتي إلا في لحظات استثنائية نادرة)، (أبقى وحدي لا يملأ فراغ الروح، كل بضع سنوات، إلا فتاة أو امرأة أحبها، أو أوهمها وتوهمني بالحب. يزداد الاقتراب فيبدأ طوفان السأم)، و(مي) الفتاة العشرينية التي آثرت أن تعيش في القاهرة وحيدة بعد أن سئمت انغماس والديها في عملهما في إحدى دول النفط الصحراوية من أجل اكتناز مزيد من الثروة، الأمر الذي جعلها تتمرد على كل شيء يرتبط بأموال والديها وتركها ل"الفيلا" المكدسة بمظاهر الثراء لتعيش في شقة والديها قبل سفرهما وارتباطها بالكاتب الذي يكبر والدها سنا و شعورها بالامان معه فيقول الراوي (ملأت فراغ حياتي كما ملأت فراغها، ومفردة المستقبل لا موضع لها في قاموسنا. البطولة للحظة التي نعيشها، أما الماضي فندفنه ولا نضع على قبره شاهدًا.) يمهد الراوي لأحداث يومه وهو يصف علاقته ب (مي) فيقول (تتعلق مي بثوبي المرقع مثل طفلة، وأعي بخبثي وذكائي الرخيص أنها تراود فيَّ الأب والأم والأستاذ والصديق، مخدوعة بقشرة زائفة لم تكتشفها بعد. الأعوام التي تفصلنا تمنحني شعورًا بالتفوق والنجاح) وفي مقطع آخر من الرواية يوضح الراوي مدى قلقه من الفارق العمري بينه و بين (مي) فيقول (يا لي من فاشل، ويالها من طفلة)، كما تظهر رغبته في الانسلاخ من المكان والزمان والعودة لقاهرة الثلاثينات التي يعشقها بتفاصيل شوارعها وجمال مبانيها فيقول (آه يا مي لو نرحل معًا إلى الأزمنة القديمة، ونسكن بيتًا فسيحًا تحيطه حديقة صغيرة، تتوسطها أرجوحة. أدفعك إلى أعلى فتضحكين، وأقبلك عند هبوطك مسحورًا بشعرك الذي يلاعبه الهواء) . يظهر الراوي ولعه بالشعر القديم فمثلما يكره الحداثة التي شوهت المباني الشوارع وكل التفاصيل، لا يتوانى عن إظهار حبه لكل ما هو أصيل حتى في الشعر فيقول (أحب جسدها وروحها، وأقبل يديها وجبهتها في امتنان. أنشد لها ما تيسر من قصيدة "صلوات في هيكل الحب" لأبي القاسم الشابي، وسرعان ما أصل إلى البيت الأخير فيزداد يقيني أنه كُتب لكي أقوله لها: "أنت لم تُخلقي ليقربك الناس ولكن .. لتُعبدي من بعيد) علاقة رغم تناقض شخوصها واختلافهما إلا أن كل منهما يرى في الأخر الملاذ والخلاص من هذا العالم الذي يرفض واقعيته المريرة تستمر أحداث ال (يوم ) موضحا تفاصيل علاقة الكاتب ب مي، ومدى تخوفه من فارق السن بينهما رغم انصهارهما روحا وجسدا في لقاءاتهما وتشابهما في أوجه كثيرة فيقول (كل يغني على ليلاه، ونحن نعرف أغنيتنا ونقنع بها. لا شيء يشدنا في لقاء الكرة المكرر إلا انكسار الزمالك في السنوات العجاف السابقة، فهل يختلف انكسارنا عنه؟ هي بيتمها في حياة أبويها، وأنا بوحدتي وبحثي عن كهف أفر إليه من زحام القطيع) وفي مقطع آخر يقول (هل يستحق عجوز مثلي جسدًا كجسدها وروحًا كروحها؟!.)، (وأشعل سيجارة لأنشغل بدخانها، متجنبًا البوح بما أفكر فيه: هي تلعب في مطلع الشوط الأول، وأنا ألهث مرهقًا في نهاية الشوط الثاني) وبعد انتهاء لقاءه ب مي يعود ويذكر ليؤكد حبه لوحدته فيقول (أبدأ رحلة العودة إلى كهفي الذي أحن إليه وأفتقده) . وهنا يتبادر في ذهن القارئ سؤال حول هل المبدع بشكل عام هل يعشق وحدته ويسعى إليها ليطلق أجنحة فكره في سماء الخيال ويطلق العنان لروحه لتحلق؟ وإن سعيه للحب ما هو إلا ليمتص رحيق زهرة ليستطيع أن يُنتج عسلاً ؟ وعلى الرغم من أن الراوي أعلن عن كرهه للسياسة إلا أن (يوم ) جاءت بعض عباراتها بمثابة استقراء للمستقبل، فالواقع عشناه بالفعل بعد كتابتها يجبر القارئ المعاصر للاحداث أن يتساءل كيف استطاع (بيومي) أن يُلخص ما حدث – قبل حدوثه – في سطرين حين قال (لا شيء في الوجود أبشع من الحكم العسكري إلا الدولة الدينية)، ويقول (رجال الدين والعسكريون يبدأون عملية الاستحواذ على السلطة بتأميم العقول، وبعدها يتحول الناس جميعًا إلى قطيع متشابه الملامح) الرواية كُتِبت في أوائل 2011 ويطرح بيومي تساؤلا قبيل ختام روايته: متى نكتب؟ وماذا نكتب؟ والكاتب المتوهج هو الذي يستطيع أن يجيب على هذا التساؤل ويتنقل بخفة بين محوري الكتابة وبخطوات راسخة ترسم طريقًا جديدًا ربما يتبعه فيه الآخرون كما فعل (بيومي) ببراعة فقط في (يوم )..