نطق المسيح بعبارة، "أريد رحمة لا ذبيحة" (متى9: 10-13)، ردًّا على إنتقاد الفريسيين له لأنه كان جالسًا مع مجموعة من العشّارين والخطاة غير المرغوب فيهم. يخبرنا إنجيل متى، أنه عندما دعا المسيح متى العشّار إلى إتّباعه، فإنه أطاع كلامه وتبعه. على أثر ذلك أقام متّى العشّار مائدة للمسيح وتلاميذه ودعا إليها بعض العشّارين أصدقاءه وجماعة أخرى، أطلق عليها الفريسيون، لقب الخطاة. وبينما كان الجميع يتسامرون ويتناولون الطعام معًا، رآهم جماعة من الفريسيين، وهم معلّموا الشريعة الذين دائمًا ينتقدون الناس. فأخذوا البعض من تلاميذ المسيح جانبًا وقالوا لهم: "لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة"؟ جاء إستغرابهم هذا، لأن العشّارين كانوا فئة غير مرغوب بها، لأنهم كانوا يعملون مع السلطات الرومانية في جمع الضرائب من الناس. فيجمعون أكثر من المطلوب كيما يحتفظوا بالباقي لهم، وإعتبروا عملاء من قبل المجتمع. عندما سمع المسيح قولهم، أجاب: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو. أني أريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (متى9: 10-13). يرى المفسّرون أن المسيح، اقتبس القول: "أريد رحمة لا ذبيحة"، من النبي هوشع الذي يعرفوه، لكنّهم تجاهلوا تطبيقه. قال هوشع: "إني أريد رحمة لا ذبيحة. ومعرفة الله أكثر من المحرقات" (هوشع1: 6) نطق هوشع بهذه العبارة إدانة لليهود الذين حاولوا تبرير عبادتهم للأصنام وظلمهم للفقراء، من خلال تقديم الذبائح الحيوانية، معتقدين أنهم بالذبيحة يستطيعون كسب رضى الله وتغاضي الله عن خطاياهم وظلمهم. لكن النبي هوشع قال لهم: "الله دائمًا يرى الغنيمة في الرحمة، وليس في الذبيحة". هذا ما أراد يسوع من المعلّمين الفريسيين أن يتعلّموه. في الوقت الذي رأى الفريسييون في تلك الجماعة، المحيطة بيسوع أنهم محتقرون ومرفوضون. رأى فيهم يسوع أناسا بحاجة للمحبة والرعاية والإهتمام واختبار خلاصه، كما حصل مع: متّى العشّار، وزكّا العشّار. كان همّ المسيح الأساسي العلاقات مع الناس. أراد المسيح من أولئك الفريسيين، أن يتجاوزوا الذبيحة ليصلوا إلى الرحمة. قال لهم، "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة". لم ينظر المسيح إلى أولئك الناس، نظرة احتقار ودونية، بل موقف اهتمام ورحمة. نظر يسوع إلى ما وراء تاريخ الإنسان، الذي هو ربّما تاريخ غير مشرِّف، إلى مستقبل الإنسان الذي يصبح مقدّسًا عندما يغيّره المسيح بمحبّته وخلاصه. فقط الرحمة والمحبّة اللتان تبنيان العلاقات الصادقة مع الناس، لخّص يسوع الناموس، وبما فيه من الذبائح والمحرقات، بكلمة محبّة. شدّد أنبياء العهد القديم على أنه يجب أن يسبق تقديم الذبائح، التوبة ومحبة الله من كلّ القلب والفكر والإرادة. قال النبي صموئيل: "هل مسرّة الربّ بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الربّ؟ هوذا الإستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الذبائح" (1صموئيل15: 22). قال الرسول يعقوب: "لأن الرحمة تفتخر على الحكم" (يعقوب2: 13). فالرحمة تفتخر على الحكم، لأن الرحمة، تقدّم فرصة جديدة للخاطىء أن يتوب عن خطاياه، قبل إدانته. كرّر المسيح نفس الآية للفريسيين،الذين حكموا على التلاميذ لأنهم قطعوا سنابل القمح، وأكلوها يوم السبت (متى12: 1-8). قال لهم، "فلو علمتم ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لما حكمتم على الأبرياء" (متى12: 7). الذبيحة في العهد القديم، كانت رمزا للتقرب من الله. أما الرحمة، فهي تصف طريقة تعاملنا مع الآخرين. أراد المسيح من الفريسيين أن يفهموا الصورة الأوسع من الذبيحة. أرادهم أن يتعلّموا أن محبّة الله تقود إلى محبّة الآخرين. لم يكن الفريسييون كاملين حتى ينتقدوا من إعتبروهم ناقصين. كان رد المسيح عليهم، بسيطا جدًا، اذ قال "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى". كان الفريسييون منشغلون بممارساتهم لدينهم وطقوسهم وأهملوا الناس، الذين هم بحاجة لمساعدتهم ورعايتهم الروحية. فأي تقوى هذه، تلك التي لا تريد أن تتفاعل مع حاجات الناس؟ لقد ذهب يسوع الطبيب الاعظم وجلس مع الذين هم في أشد الحاجة إليه، لكي يروا في محبته لهم مثالا عن محبة لهم للجميع، فيتعرفوا عليه، ويختبروا خلاصه. القس سهيل سعود