تشهد الساحة السياسة الفرنسية هذه الأيام تصاعدا ملحوظا غير مسبوق في شعبية الحزب اليميني المتطرف، "الجبهة الوطنية" بزعامة ماري لوبن، وهو الأمر الذي اعتبره مراقبون منعطفا جديدا في المشهد السياسي الفرنسي والأوروبي بشكل عام خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية في فرنسا المزمع عقدها الشهر القادم، إضافة إلى انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستعقد في مايو القادم. وكشفت استطلاعات الرأي، التي أجريت في أوائل الشهر الجاري، التصاعد المستمر في شعبية حزب الجبهة الوطنية حيث أظهرت أن 34 % من الفرنسيين أصبحوا يتبنون أفكار هذا الحزب المتطرف، وأن 35% منهم يعتقدون بإمكانية مشاركة هذا الحزب في حكومة فرنسية. وتحسنت صورة حزب "الجبهة الوطنية" بعد أن تولت ماري لوبن رئاسة الحزب في عام 2011 خلفا لوالدها. فبعد أن كانت نسبة الفرنسيين المتعاطفين مع أفكار هذا الحزب خلال ذلك العام 22 %، ارتفعت هذه النسبة إلى 31 % عام 2012 ثم إلى 32 % في 2013. كما كشفت آخر استطلاعات الرأي التي أجريت خلال العام الجاري تزايد شعبية لوبن بصورة واضحة حيث يرى 56 % من الفرنسيين بأن لوبن تتفهم مشاكلهم اليومية بينما يرى 46 % منهم أن زعيمة "الجبهة الوطنية" تمثل اليمين الوطني المحافظ على القيم التقليدية وأنها تملك الحلول اللازمة لحل مشاكل فرنسا. وتعكس استطلاعات الرأي هذه حقيقة مفادها أن الأفكار التي تدافع عنها "الجبهة الوطنية" بدأت تلقى استجابة في المجتمع الفرنسي والفضل يرجع في ذلك إلى زعيمته لوبن التي أصبحت تتمتع بقبول واضح لدى شريحة واسعة من الفرنسيين على خلاف والدها جون ماري لوبن الذي كان ينظر إليه كرجل عنصري ومعادي للأجانب والهجرة. فرص الانتخابات البلدية: ويأتي هذا التصاعد في شعبية الجبهة الوطنية فى الوقت الذى تستعد فيه فرنسا لإجراء الانتخابات البلدية المقررة الشهر القادم وسط توقعات بأن يسهم تحسن صورة الحزب في زيادة فرص اليمين المتطرف فى الفوز برئاسة بعض البلديات على مستوى البلاد. ومما يدعم من تلك التوقعات فوز مرشح الجبهة الوطنية لانتخابات مناطقية جزئية، أجريت في أكتوبر الماضي في بلدة برينيول جنوبفرنسا، خلال الدور الثاني بنسبة 53,9 بالمئة وهو الأمر الذي حظى بترحيب كبير من زعيمة الحزب لوبن وزاد من ثقتها في إمكانية تحقيق فوز كبير خلال الانتخابات البلدية القادمة. وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد "سوفرس" خلال الشهر الجاري أن 32 بالمئة من ناخبي حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية اليميني من المتوقع أن يصوتوا لصالح الجبهة الوطنية في الانتخابات البلدية القادمة. ومن الملاحظ أن بعض رموز الأحزاب اليمينية أصبحوا يميلون إلى تبني بعض أفكار الجبهة الوطنية سعيا إلى كسب تأييد المواطنين وكان أبرز مثال على ذلك جون فرنسوا كوبيه، رئيس حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية المعارض، الذي وجه انتقادا لاذعا لكتاب عن "العري" يتم تدريسه في المدارس لطلاب الصف الابتدائي. ورأي المراقبون أن كوبيه تبنى نفس الخطاب الذي يتبناه اليمين المتطرف سعيا منه للاستفادة من ارتفاع شعبية الجبهة الوطنية في الشارع الفرنسي ومحاولة لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات البلدية المزمع عقدها الشهر القادم. تفاؤل حيال الانتخابات الأوروبية: ويتزامن هذا التصاعد في شعبية الجبهة الوطنية أيضا مع قرب انعقاد انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو القادم، والتي عبرت لوبن عن تفاؤلها حيالها، مشيرة إلى أملها في أن يفوز حزبها بالمرتبة الأولى في هذا الاقتراع وأن يحصل على ما بين 15 و20 مقعدا. وكشف آخر استطلاع للرأي أجراه "أوبينيون واي" لجريدة "لوفيجارو الفرنسية أن 20 % من الأوروبيين يعتزمون التصويت للجبهة الوطنية بينما يعتزم 22 % منهم التصويت للاتحاد من أجل الحركة الشعبية و16% فقط للحزب الاشتراكي الحاكم. وشكلت نتيجة هذا الاستطلاع تراجعا نسبيا في شعبية الجبهة الوطنية بالنظر إلى نتائج استطلاع للرأي تم أجراه معهد "ايفوب" الفرنسي في أكتوبر الماضي وكشف عن حصول الجبهة الوطنية على المركز الأول في الانتخابات الأوروبية بنسبة 24 % يليه حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية ليحل في المركز الثاني ب 22 بالمئة من الأصوات، بينما احتل الحزب الاشتراكي الحاكم 19 % . واعتبرت هذه النتيجة تحولا جذريا في المشهد السياسي الفرنسي إذ أصبحت الجبهة الوطنية، ولأول مرة في تاريخها، القوة السياسية الأولى في البلاد. وفي استطلاع آخر أجراه المعهد نفسه الشهر الماضي حول الانتخابات الأوروبية المرتقبة حصلت الجبهة الوطنية على 23 % من الأصوات يليها حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية ب 21 % بينما تراجع الحزب الاشتراكي الحاكم إلى المركز الثالث ب 18 بالمئة. وعكست هذه النتائح التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي الفرنسي، حيث لم يعد تقدم الجبهة الوطنية أمرا مؤقتا أو ظرفيا بل من مميزاته الثابثة. عوامل صعود الجبهة الوطنية: ويرى المراقبون أن التصاعد الملحوظ في شعبية الجبهة الوطنية يرجع إلى العديد من العوامل أولها استياء الرأي العام من الحزب الاشتراكي الحاكم بزعامة الرئيس فرانسوا أولاند الذي لم يف بوعوده الانتخابية خاصة فيما يتعلق بخفض معدلات البطالة حيث تستمر تلك المعدلات في الارتفاع بشكل ملحوظ، وهو ما أصاب المواطنين بخيبة أمل حيال سياسات الرئيس الفرنسي الذي بلغت شعبيته أدني مستوى لرئيس فرنسي منذ عام 1958. وساعد هذا الوضع على نشر خطاب الجبهة الوطنية المناهض للهجرة وأخذت ماري لوبن تطالب بإحلال المواطنين الفرنسيين محل العاملين الأجانب لأنه عندما تكون هناك أزمة اقتصادية ينبغي إيلاء أولوية لتوظيف أبناء الشعب الفرنسي، وهو ما لقى ترحيبا من قبل أعداد كبيرة من الفرنسيين الذين يعانون من ارتفاع معدلات البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية. ومن بين الأسباب أيضا التي أسهمت في صعود الجبهة الوطنية هو تزايد استياء الفرنسيين من سياسات الاتحاد الأوروبي التي آظهرت فشلا في إدارة العديد من الأزمات، ومن أبرزها السياسات التقشفية التي لم تنجح في إخراج البلدان الأوروبية من أزمتها منذ أكثر من خمس سنوات. ويرى المراقبون أن نسبة كبيرة من الفرنسيين تشعر بالإحباط حيال المشروع الأوروبي ورغم أن هذه النسبة لا تزال تؤمن بالفكرة غير أنها أصيبت بخيبة الأمل التي أفقدتها حماسها وإيمانها بمميزات الوحدة الأوروبية وفوائد العملة الموحدة. وفي هذا الصدد كشف استطلاع للرأي ل "أوبينيون واي" أن 26 بالمئة من الفرنسيين يفضلون العودة إلى الفرنك الفرنسي بينما أبدى 20 بالمئة عدم اهتمامهم بالموضوع فيما عبر 53 بالمئة عن تفضيلهم لاستخدام العملة الموحدة. ومن الملاحظ أن هذا الصعود الملحوظ الذي تشهده الجبهة الوطنية هذه الأيام يأتي في إطار تقدم هذه الحركات التي توصف باليمين المتطرف في مجموع دول أوروبا ومنها هولندا وبلجيكا واليونان وبريطانيا، إلا أنه لم يتصدر أي حزب من هذا النوع قائمة الأحزاب السياسية في أي بلد أوروبي سوى في فرنسا.