لقد أشرنا فيما سبق إلى أن العمل فى معية الأمراء والنبلاء والأعيان وأصحاب الجاه لا يعد نعمة أو منة، بل على العكس تمامًا فمعظم المشاهير من الأدباء وأصحاب الأقلام الذين يتصلون بسكان القصور وذوى النفوذ يبيتون فى مرمى بنادق الحساد الجائرة وقنابل الخصوم الفاجرة، ناهيك عن الوشايات والإشاعات التى تصيب أصحاب الأقلام - المتطلعين إلى المراتب العليا -فى مقتل. وفى هذا السبيل يروى العقاد (1889-1964م) أن محمد المويلحى وأباه كانا من أكثر أصحاب الأقلام ترددًا على مجالس الحاشية الخديوية، وتربطهما علاقات وطيدة برجالات القصر وأميراته. ويؤكد العقاد أن الشيخ على يوسف (1863-1913م) كان من أكثر الناقمين على محمد المويلحى وقد حكى عنه فى جريدة المؤيد أنه تشاجر ذات يوم مع أحد الصحفيين فى حانة كانا يترددان عليها. وقد أراد الشيخ على يوسف من نشر هذا الخبر الإطاحة بخصمه والعدول عن ترشيحه بمشيخة الطرق الصوفية، ذلك بالإضافة للتشكيك فى نسبه الشريف، ناهيك عن رغبته فى الإيقاع بين المويلحى والحاشية الخديوية حتى لا تصبح مجلته (مصباح الشرق) لسان حال الخديوي. وقد كتب أحمد شوقى (1868-1932م) متهكما على محمد المويلحى وأبيه حتى لا يزاحمانه فى معية عباس حلمى الثانى (1874-1944م). والغريب أن المويلحى وأباه على الرغم من انتمائهما لطبقة الأثرياء إلا أنهما لم يسعيا قط لتملق عائلة محمد على أو مداهنة الباب العالي، بل على العكس من ذلك فكانت كتاباتهما مناوئة لسياسة حكام مصر وطبقة الباشوات وسياسة الباب العالي. وقد أحبط إبراهيم المويلحى إحدى المؤامرات التى كان يدبرها القصر ضد الإمام محمد عبده (1849-1905م) لتشويه سمعته والطعن فى شرفه رغم علم الأول بمدى الخصومة الواقعة بين محمد عبده وحاشية الخديوي. ولا يخفى على أحد مناصرة المويلحى الكبير وجماعة تركيا الفتاة ونشره فضائح الأتراك عام 1896م وعدم مناصرة محمد المويلحى لما كان يطمح إليه عباس حلمى فى تولى أمور الخلافة بعد سقوطها. ورغم ذلك ظل أبناء محمد على يتحاشون غضبة آل المويلحى ويدعونهم للمشاركة فى شئون الحكم تحاشيًا للذاعة نقدهم. ولم يسلم محمد المويلحى من كيد حاسديه –كما بينّا-، فراحوا يوشون به عند الباب العالى تارة والخديوى عباس حلمى تارة أخرى. واتهموه بأنه انتحل مقامة أبيه ونسبها إلى نفسه، بينما ذهب النقاد المعاصرون إلى أن أباه (إبراهيم المويلحي) كان له أسلوب مغاير فى كتابة مقامته «حديث موسى بن عصام» تلك التى كتبها عام 1899م حتى عام 1903م أى بعد مقامة ولده بعام. وقد تنبأ فيها بسقوط الخلافة وزوال الدولة العثمانية، ولعل أبرز الفروق بين المقامتين هو الطابع العام فى البناء والبنية والمعالجة ناهيك عن الأسلوب الذى ميز بين الرجلين، فقد انصبت مقامة إبراهيم المويلحى حول إحياء القيم الروحية والدينية والأخلاقية وتخليص المجتمع من كل العوائد الدخيلة والمنافية لما جاءت به الشريعة المحمدية. وفى عام 1900م سافر محمد المويلحى بصحبة عباس حلمى الثانى إلى إنجلترا للتفاوض مع الإنجليز، وفى عام 1906م أنعم عليه الخديو عباس حلمى برتبة المتمايز ثم عينه مديرا لإدارة الأوقاف عام 1910م، وظل فى هذا العمل حتى عام 1915م، فاشتدت الوشايات به ولاسيما ما كان فى كتاباته من همز ولمز على أسرة محمد على والباشوات الأتراك ومحاباة الأجانب وامتيازات الخواجات وسلطة المستعمر الجائرة، ففضّل العزلة ثانية والاستقالة من سائر الأعمال الحكومية. وخلال هذه الفترة شرع فى تأسيس جماعة من شبيبة المثقفين لإصلاح حال اللغة العربية وإحياء آدابها، وتقويم أساليب خطابات دواوين الحكومة، وشرح وتحقيق نفائس التراث الأدبى العربي، وعقد العديد من الدراسات عن المتنبى وأبى العلاء المعرى وابن خلدون. وفى عام 1927م وفى وزارة على الشمسى باشا قررت وزارة المعارف تدريس العديد من مقالات مقامة عيسى بن هشام على طلبة المدارس الثانوية، وجاء فى التقرير الوزارى عنها: «أن مقامة حديث عيسى بن هشام إذا دخلت فى المطالعة لطلبة المدارس الثانوية أفادتهم أجل فائدة من ناحية ما تأخذهم به من بلاغة الكلام، وسلامة القول، والصيغ الطريفة التى تناولت كثيرا من الأسباب الدائرة بين الناس، وهو ما يعوز جميع الكتب التى وضعت فى عصور متقدمة، إلى ما يفسح فى ملكاتهم، ويطبعهم على دقة الملاحظة، وقوة التعبير وتدبير ألوان الاحتجاج لطرفى الموضوع الواحد». وفى فبراير 1930م توفى مفكرنا ليلة عيد الفطر فى منزله بحلوان تاركا آخر مؤلفاته «رسائل فى الأخلاق أو علاج النفس»، فتولت وزارة المعارف طبعه وقررته فى مدارسها الثانوية عام 1932م. وقد أجمع معاصروه على أن محمد المويلحى صاحب مشروع تنويرى إصلاحي، وكان مقصده إعادة توعية الرأى العام بأسلوب لا يخلو من الجدة والطرافة فى التوجيه، وأنه نجح فى مخاطبة العقل الجمعى عوامه ونخبته واستطاع توجيههم وطبعهم بالمنحى النقدى البناء، وأنه بلا منازع رائد الرواية الواقعية فى الأدب العربي، وأن أثره فى معاصريه لا يمكن إنكاره أو تجاهله، وأن آراءه ما زالت حية فى عقول كل من اطلع على تراثه الجديد بالبحث والدرس. وأن مقامة عيسى بن هشام تعد همزة وصل بين الأدب العربى القديم وبين الأشكال الفنية الجديدة، وأنها أهم أعمال الأدب الخيالى فى جيله، وقد قرأها الجمهور على نطاق واسع. ذلك أن حكاية عيسى وصاحبه الباشا فى مصر أواخر القرن التاسع عشر تؤدى إلى نقد اجتماعى لاذع بعيد كل البعد عن التطلعات العاطفية والرومانسية التى كانت تتسم بها الرواية العربية الناشئة. وقد اختلف النقاد حول وجهة بنية المقامة السياسية، فذهب البعض إلى أنها تعبر عن الفلسفة الليبرالية وأنها إحدى المنابر الداعية للحريات وسيادة القانون، بينما ذهب البعض الآخر إلى أن حوارات شخوص الرواية تنبأ عن ميلهم إلى الترويج للعدالة والمساواة بين المصريين ونقد الأغنياء والطبقة الأرستقراطية، وتنحاز بذلك إلى الاشتراكية وهى مطلب العوام والجمهور، الأمر الذى كان يخيف الطبقة البرجوازية المصرية الناشئة والباشوات الأتراك والتجار والموظفين الأجانب. ويتراءى لى أن محمد المويلحى أفضل من استخدم التفكير الناقد فى كتاباته بعامة ومقامته بخاصة والأمر الذى يكشف عن عقليته الفلسفية الموسوعية ونزعته القومية المخلصة لوطنيته المصرية التى يعليها على كل انتماءاته وانضواءاته. وللحديث بقية.