ما زالت القاهرة الحلم الكامن بنفوس أبناء القرى والنجوع على أمل ملاحقة الفرص كما تصورها أفلام الستينيات، فيطيحون بحاضرهم وماضيهم مقابل مستقبل أبنائهم، لكن أحلامهم لا تسمو لامتلاك سيارة، أو حجز شقة فاخرة، بل لا تتخطى العودة لأراضيهم بما يكفيهم من مأكل وملبس لشهر، فيهجرون الأرض والأبناء مقابل كيلو من اللحم، ليصبح شعار فواعلية مصر «إحنا نسعى والأرزاق على الله». يبلغ الظلم أشده مع الفقراء أكثر من غيرهم، فأمام ضعفهم وقلة حيلتهم، يتفنن الظالمون مستغلين ظروفهم، هذا ما يحدث بشكل مستمر مع الفواعلية، يقول «إبراهيم»: بعدما عملت لمدة 12 ساعة مع أحد المقاولين وجدته يوزع اليومية على العمال، فهممت لأخذ حقى فسألنى عن أى حق أطلب منه، وعندما أصررت على الحصول على حقى، أمر العمال لديه بطردى خارج الموقع، أما سيد فكانت له قصة شبيهة مع المقاولين، يقول: كنت أعمل، وهممت لشرب الماء، فجاء المقاول ليراقب علينا، وعندما وجدنى أجلس بجانب نصبة الشاى سبنى بوالدتى واتهمنى أننى لم أعمل طيلة النهار، ورغم شهادة زملائى بعكس ذلك فإنه كرر سبابه لي، فسببته، فأمسك بماسورة حديدية وأخذ يضربنى أسفل ظهري، مستغلا عجزى وكبر سني، فكرت أن أذهب لقسم الشرطة وأشكوه، ثم تراجعت عن الفكرة عندما علمت أن أقرب قسم شرطة من مكانى سيكلفنى ذهابى له 30 جنيهًا!. الشهادة الزور ب200 جنيه لم يكن المنتظرون جهلاء أو حاملى الابتدائية كما يخيل للبعض عند مروره بهم بمفترق الطرق، بل حاملو شهادات جامعية وخريجو كليات حكومية، مرتدون العباءات والقفاطين، منتظرون أرزاقهم، يقول «عباس» الثلاثينى: «حصلت على شهادة ليسانس الحقوق من جامعة أسيوط، هرمت لأجد عملا، وعندما فشل مسعاى اقترح عمى عليّ النزول معه للقاهرة، والعمل كفواعلي، خاصة أنه أخبرنى بأنه تقدم فى العمر، ولم يعد من ضمن من يختارهم المقاولون، وبالفعل نزلت معه، فلم ترهقنى ساعات الانتظار الممتدة بقدر ما تؤلمنى معاملة المقاولين باعتبارى عبدا جاهلا، وعندما يقدم علينا ويبدأ فى اختيار العمال، وتبدأ عيناه تغطى الكل، يختار منا من هو أقوى بنيانا، أما العجازى والمرضى فالرصيف أولى بهم وكأنه يختار بعيرًا أو خرفانا، ومر علينا محام وأخبرنا بأنه يريد فردا أو فردين لعمل ما فى مقابل 200 جنيه، فذهبت معه أنا وزميل، ولكن فور دخولنا محطة المترو، أخبرنا أن المائتى جنيه فى مقابل عمل لمدة ساعة واحدة، فشعرت بالقلق، وعندما ألححت عليه أخبرنى بأنه يريد منى شهادة أمام المحكمة بأن موكلته تضرب كل يوم من قبل زوجها، فرفضت وعدت أدراجى إلى الرصيف. مكسورون أمام زوجاتنا قد يتلخص قهر الرجال فى عودتهم للمنزل بعد غياب شهور بيدين فارغتين وقلة حيلة، يقول عم عرفات: «أبلغتهم بالمنزل أنه فى حالة حاجتهم لأى شيء فى غيابي، فليطلبوا من الجيران، وقد منحت زوجتى 200 جنيه على أمل أن أعود لهم بعد أسبوع ولكن لم أفعل شيئا، وأخذت أقترض لأعيش ولكنى صمدت فخجلت أن أعود مثلما ذهبت فظللت بالقاهرة لشهرين ما بين الأرصفة والغرفة المعتمة التى أستأجرها بعزبة الوالدة، فما كسبته بالشهرين تمكنت به من سد ديونى بالقاهرة ودفع أجرة الغرفة، وعدت دون شيء، وما كسرنى حقًا هو ابتسامة أبنائى التى استقبلونى بها على أمل أننى عائد بالخير وسأتمكن من دفع مصاريف المدرسة والإيجار المتأخر وسد ديونهم أثناء غيابي، كانت تلك هى أول مرة أشعر فيها بالكسرة والذل والمهانة، ففور علمهم أننى عدت كما ذهبت نفروا جميعًا مني، أما زوجتى فلقد صمدت معى كثيرًا حتى طفح بها الكيل وأصبحت تطلب منى الطلاق يوميًا، فلقد جعلتها تستدين من طوب الأرض، حتى الجيران لم يعد لنا وجه نطلب منهم شيئا آخر ونحن لم نتمكن من سد ما علينا بعد، وعندما رفضت طلاقها هجرتنى وتركت كل شيء وراءها، كانت دومًا تخبرنى أنه لولا الأبناء لكانت هجرتنى منذ زمن، وبالفعل عدت إلى قنا بعد غياب شهرين واكتشفت أنها تركت كل شيء وذهبت لبيت والدها وكانت عودتها مشروطة بأن أجد عملا ثابتا، ومرت سنة وإلى الآن لم تعد».