«غريبًا عشت فى الدنيا، نزيلًا مثل آبائي، تركت مفاتن الدنيا، ولم أحفل بناديها، ورحت أجر ترحالي، بعيدًا عن ملاهيه».. كلمات عبر بها الراهب شنودة الثالث، البابا الراحل، عن حياته كراهب ترك مفاتن الدنيا وراح يسبح فى حب الله وأسرار كون خلقه القدير. «وادى النطرون» منطقة لها صدى قوى فى قلوب الأقباط على مئات السنين، فهى تلك المنطقة التى كانت شاهدة على حياة الرهبان الذين تركوا مباهج الدنيا ومغرياتها وجالوا باحثين عن الله ورضاه، ما إن تطأ رجلك منطقة الأديرة، إلا وتشاهد مبانى تتوغل فى الصحراء، أقيمت على الرمال وبين الصخور والجبال، يفوح منها عبق التاريخ، ويرجع تاريخ تشييدها إلى العصور الوسطى فى مصر، ورغم بنائها على الرمال دون أساسات، إلا أن البعض منها ما زال على حالته منذ ذلك الزمن، غيرت فيه الطبيعة القليل ولكن لم تمح بناه. من أبرز تلك الأديرة التى وجدت منذ حقبة من الزمان، هى أديرة وادى النطرون، التى تقع فى الواحات فى الصحراء الغربية من مصر، أطلق على هذا الوادى «سكيتس»، وتعنى مكان النسك، كما عرف باسم «برية شيهيت»، وعرف بوادى الملوك نسبة إلى الأميرين «مكسيموس ودماديوس» ابنا الملك فالنتيانوس، الذى صار إمبراطورًا لروما سنة 364 وعشقا الرهبنة فى وادى النطرون، وعرف بوادى «هبيب» نسبة إلى «هبيب بن حزام بن عفاف الغفاري»، أحد أصحاب رسول الله، وأطلق على الوادى اسم «وادى النطرون» لاستخراج مادة النطرون من بحيراته، وكانت تُسمى ب«الأطرون»، ومن ثم فقد سمى الوادى بوادى النطرون. ويعود هذا الوادى إلى القرن الرابع الميلادى على يد «مقار الكبير» الذى أنشأ دير الأنبا مقار، بجانب ثلاثة أديرة أخرى، وهي: دير الأنبا بيشوى ودير البراموس ودير السريان، وكانت المنطقة تحوى حوالى 700 دير فى النصف الثانى من القرن الرابع الميلادي. حرصت «البوابة نيوز» خلال معايشة استمرت 24 ساعة على نقل الأجواء بالأديرة الثلاثة، ومن داخل الدير طرحنا العديد من التساؤلات، والتى أجاب عنها الرهبان، ولكنهم رفضوا ذكر اسمهم إعمالا لقرار البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بمنع الرهبان منذ نوفمبر الماضى من الظهور الإعلامي، فمن داخل الدير حرصنا على التعرف على حياة الرهبنة التى يبدو عليها بعض الغموض لدى البعض، والتعرف على تلك الحياة التى فى سبيلها ترك هذا الشخص ملاذ الدنيا وكيف استطاع التعايش وسط الصحراء... وإلى نص الحوار مع الرهبان: ■ فى البداية حدثنى على طبيعة حياة الرهبنة؟ - الرهبنة هى أن يترك الإنسان كل شىء الأهل والشارع والأصدقاء ويخلو بنفسه ليعيش للاتحاد مع الله وحده، ويأتى هنا التساؤل: هل علينا أن نترك كل شىء لنعيش مع الله؟ يرد علينا الراهب قائلا: إن العلاقة هنا فى الدير مع الله تكون دون أى تشويش وأى التزامات اجتماعية، كما أن الرهبنة ظهرت منذ العهد القديم، ويتضح ذلك فى الكتاب المقدس، وأبرز الأمثلة على ذلك إيليا النبى واليشع ويوحنا المعمدان، كانت حياتهم أشبه بحياة الرهبان التى نعيشها فى عصرنا الحديث. والرهبنة هى انفتاح قلب الإنسان على الله، أى أن الإنسان ينفتح على حب أعظم فتتضاءل أمام عينيه أى حب آخر سواء عالمى أو حب مال أو غيره، وهذا الحب هو الذى يحفظ الراهب من الخطية. ■ ما المبادئ التى تقام عليها الرهبنة؟ - تقوم الرهبنة على العديد من المبادئ التى تساعد الإنسان على التأقلم مع حياته الجديدة، التى اختارها بنفسه، ولم يفرضها عليه أى شخص آخر سواء قريب أو بعيد ومن تلك المبادئ: البتولية، وهى تعنى فى الظاهر عدم الزواج ولبس العفة، ولكن ذلك لا يعنى أن من يتزوج ويعيش فى العالم تصبح حياته خطأ، فالراهب هو ثمرة زواج من أب وأم، ولكن البتولية هنا تتخذ معنى «الزواج الروحى»، هذا الزواج عن طريق الاتحاد بالله، كما أن الراهب عليه أن تكون كل مشاعره موجهة نحو الله، ولا يوجد أحد يشاركه فى تلك المشاعر، وهى تلك وصية الإنجيل؛ حيث يتضح ذلك من قول بولس الرسول «غير المتزوج يهتم فى ما للرب كيف يرضى الرب، وأما المتزوج فيهتم فى ما للعالم كيف يرضى امرأته». والمبدأ الثانى الذى تقوم عليه الرهبنة، هو الطاعة، والطاعة فى الرهبنة تتميز بالاستنارة، فالراهب هو إنسان يشعر أنه محتاج لمرشد ليساعده فى طريقه الروحى والإنجيل. أما المبدأ الثالث الذى تقوم عليه الرهبنة، هو الغربة، فالراهب يختار حياة الغربة، ويتخلص من الواجبات الاجتماعية والممارسات الحياتية فى العالم، ليصبح لديه كل الوقت للاتحاد معه الله؛ لأن المشاركات الاجتماعية ستشغله عن الله. * المبدأ الرابع، هو.. الفقر الاختيارى، أى أن الراهب الذى يود أن يعيش فى الدير يختار أن يترك كل شىء بإرادته، ولكن يجب أيضا أن نوضح أن الغنى ليس حراما، ففى الكتاب المقدس أبونا إبراهيم كان من الأغنياء وليس العيب أن يملك الإنسان المال، ولكن العيب أن يمتلك المال الإنسان. والرهبنة تجعل الإنسان يعود لحياته البسيطة بالتحرر من المال، وتجعله لا يهتم بأى اهتمامات اجتماعية تحتاج إلى المال؛ لأن المال قد يكون سببا فى شقاء الإنسان، فيقول أحد الفلاسفة لكى يكون الإنسان سعيدا يجب أن يكون بعيدا عن أى مصدر للشهوة، لذلك نجد الراهب لا يخاف من الموت «يجب أن تموت قبل أن تموت» أى أن تتجرد عن كل شىء. والمبدأ الخامس، هو العمل اليدوى، خلق الله الإنسان يعمل فى جنة عدن، كما أن السيد المسيح كان يعمل فى النجارة والعمل يحفظ الإنسان من الملل. ■ كيف يصبح الإنسان راهبا؟ - يجب على الرجل أو الفتاة أن يكون حاصلا على مؤهل دراسى، والرجل عليه أن يكون قد أنهى الخدمة العسكرية، وعليه أن يصارح أب اعترافه، وفى حالة الموافقة يذهب لزيارة أكثر من دير، ويحدد الدير الذى لاقى فيه راحته ويختاره ليكون مكانه، ثم يبدأ فى مصارحة رئيس الدير فى رغبته بالرهبنة، ويبدأ بالتردد على الدير من خلال الخلوات فى فترات متقاربة كما يراها رئيس الدير، قد تطول وقد تقصر، لتصل إلى عدة سنين أو تقصر لتصل إلى بضعة أشهر، حسب استعداد الشخص وظروفه الروحية ورؤية رئيس الدير. ثم يحصل على تزكية من أب اعترافه للانضمام إلى الدير، ليصبح تلميذ رهبنة، ويقضى فى فترة التلمذة حوالى ثلاث سنين، يتدرج خلالها فى الزى من اللون الرمادى إلى الأزرق ثم الأبيض، وفى خلال تلك السنوات الثلاث من الممكن يعدل عن قراره بالرهبنة، ويعود إلى العالم إذا اكتشف نفسه أنه غير قادر على استكمال الطريق، أو اكتشف الدير أنه غير مؤهل فيعود إلى العالم ويمارس حياته الطبيعية دون أى تقليل من شأنه خلال تلك التجربة. وفى حالة صلاحيته لحياة الرهبنة يتم رسامته راهبا بيد رئيس الدير أو البابا أو أحد الأساقفة، ويصلى عليه صلاة الموتى، ويتم إلباسه اللون الأسود، وهو لون يدل على تحمل المسئولية ولا يستطيع أن يعود إلى العالم. وقديما فى الرهبنة لم يكن هناك أى تدرج فى الرهبنة، بل كانت هناك درجات فى الروحيات، بمعنى أنه قديما كان هناك راهب ويتحول مع مرور الوقت لراهب متوحد، ولم يكون هناك كهنوت بل كان راهبا وشيخا. ولكن مع اتساع الأديرة وتزايد عدد الرهبان، ومع انتشار المسيحية أصبحت هناك حاجة إلى ترقية الراهب إلى رتب الكهنوت مثل القسيسة والقمصية، وكان قديما يتم إحضار الكاهن المتزوج من القرى المجاورة لعمل القداسات، وفى العصر الحديث، وبعد أن أصبح الراهب قسيسا أصبح هناك اكتفاء وليس هناك أى حاجة للاستعانة بآخرين من خارج الدير، كما الآن يمكن أن يتم اختيار الأساقفة والبابا البطرك من بين الرهبان. ■ كيف يقضى الراهب يومه داخل الدير؟ - حسب قانون الكنيسة، يبدأ الراهب يومه فى الرابعة صباحا، ليشارك فى صلاة تسبحة نصف الليل، ثم يذهب بعده لحضور صلوات القداس الإلهى، وبعد ذلك يسمح له أن يأخذ قسطا من الراحة ما يقارب الساعتين. وبعد انتهاء فترة الراحة عليه أن يبدأ العمل اليدوى الذى يكون مكلفا به من قبل الدير، الذى يستمر لوقت الغروب، حينها يجتمع الرهبان جميعا للمشاركة فى صلاة الغروب. بعدها يخرج الراهب فى فترة تأمل، يقرأ خلالها بعض الكتب الروحية ويصلى صلوات الأجبية، وهو ذلك الكتاب الذى يعرف بكتاب السبع صلوات، ولا مانع من ممارسة بعض الهوايات التى مثل كتابة الشعر، وهناك البعض الذى يتميز فى موهبة تأليف الكتب الروحية أو الروايات الرهبانية، كما أن هناك الذى يحب الرسم، وتلك الأمور هى التى تساعد على استمرار الحياة الرهبانية دون ملل أو كلل إلى أن تنتهى حياته فيدفن بمقبرة الدير التى تعرف ب «الطافوس». ■ كيف يتم إعداد الرهبان؟ - من المؤكد أن لو كل العالم قد ترهبن، فسيؤدى ذلك إلى انفراد الجنس البشرى، ولكن هذا الطريق غير مناسب ولا يسلكه غير القلة القليلة جدا من الناس، فيوجد على مستوى العالم ما يقرب من 3000 راهب وراهبة فى الكنيسه الأرثوذكسية، وأكبر دير يحتوى على العدد الأبرز من الرهبان هو دير الأنبا بيشوى الذى يضم 190 راهبًا. ■ وماذا عن رهبنة السيدات؟ - تعتبر رهبنة السيدات أصعب عن رهبنة الرجال، ويأتى هذا الاختلاف لأن الرجل الذى يود أن يختار الحياة الرهبانية لا يجد رفضا كبيرا من الأسرة سوى التأثير على والديه بسبب غيابه عنهما، وأنهم لن يروا أولادا له، لأنه لن يتزوج، والرجل فى هذه الحالة يستطيع أن يأخذ القرار، ولكن لظروفنا الاجتماعية والنظرة التى تعامل بها الفتاة فى مجتمعنا المصرى يصعب الأمر عليها عندما تود أن تعيش حياة الرهبنة. كما أن نظام الرهبنة عند الفتيات أصعب، لأن الأديرة أيضا التى تضم البنات تكون صغيرة بعض الشىء من حيث المساحة، وتقوم الراهبة أيضا بحلاقة شعر رأسها نهائيا ولا تتركه ينمو. ■ كيف يقوم الدير بإعالة كل هذا العدد من الرهبان؟ - للدير دخل يأتى عن طريق التبرعات من قبل الزوار أو النذور، أو عن طريق المشاريع التى يقيمها الدير من الزراعات وبعض الصناعات اليدوية، وتلك المشاريع التى تقام داخل الأديرة يستعان بها لاكتفاء الرهبان داخل الأديرة، والباقى منها يتم التصرف فيها، وهو يستخدم فى المبانى وباقى المصاريف الأخرى، ومنها أيضا علاج الرهبان وغيرها من الأمور. ولا ننسى أن الرهبان يصرح لهم برؤية أهاليهم، كما يسمح قانون الدير، فهناك بعض الأديرة التى تمنع الزيارات خلال الأصوام، وهناك البعض الذى سيسمح بالزيارة بأمر من رئيس الدير، ولا يلقى على عاتق الراهب أن يصرف على أهله أو أن يساعدهم بأى حال من الأحوال، فهو ترك العالم بكل ما فيه.