وُلِدَ يوسف اسكندر( الاب متى المسكين) في دمنهور بمصر سنة 1919م، ودرس بكلية الصيدلة جامعة فؤاد الأول، وتخرج فيها عام 1944، وأصبح صيدليًا ناجحًا؛ حيث كان يمتلك صيدلية بدمنهور، ولكنه كان غير سعيد بتلك الحياة. وهذا يدل على أن النجاح الذي حققه في حياته العملية لم يكن يمثل هدفه الحقيقي؛ فاتجاه الأب متى المسكين كان اتجاهًا روحيًا وهدفه الحقيقي لم يكن صوب الأرض بل كان صوب السماء. يقول الأب متَّى في مناجاته مع الله: «لقد بحثت عنك في كل مكان فما وجدتك لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصُّبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار أثناء العمل، وبالليل أثناء هذه الصلاة». فالأب متى المسكين قرر أن يبيع كل ما يملك ويتبع الرب، حيث كان يمتلك منزلًا وصيدلية، ووزَّع ثمنهما على الفقراء، ولم يحتفظ إلا بساعته، وأفنى نفسه في الصلاة والزهد. يقول الأب متى المسكين عن خروجه من هذا العالم: «تركت كتبي العلمية، وتركت الشقة بعفشها... وملابسي وشنطتي، تركت كل شيء... كل ما أخذته هو ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة... وخرجت ولا أعلم إلى أين أذهب، وليس لي ما يؤمِّن خروجي أو مستقبل حياتي إطلاقًا. إلا أن الرب كان يُجرى كل يوم شيئًا جديدًا لا أعرف ماذا أقول عنه: معجزات أو أمور عظيمة؛ لأن مراحمه لا تزول، هي جديدة في كل صباح». وقد كان الخروج الأول للأب متى المسكين من بلدته وأسرته، إلى كنيسة مار مينا بمصر القديمة؛ حيث كان أبوه الروحي القمص مينا المتوحد، وقد عاش هناك مع زميل له تحت إرشاد الأب مينا المتوحد مؤقتًا إلى أن ذهب إلى دير الأنبا صموئيل. وفي بداية هذه الفترة اختبر التوبة مع الصوم والصلاة في اعتكاف كلي لمدة 28 يومًا ثم امتدت لثلاثة شهور يواصل الليل بالنهار في الخدمة. بدأ حياته الرهبانية في دير الأنبا صموئيل المعترف بالمنيا. ولكن كيف كانت أحوال الرهبنة في مصر آنذاك؟ الواقع أن دير الأنبا صموئيل كان نموذجًا لمعظم الأديرة المصرية في ذلك الوقت. فالحياة فيه كانت صعبة للغاية؛ فالبيئة كانت غير صحية تُعرَّض الرهبان للأمراض، بل إن الرهبان كانوا يتعرضون للدغات العقارب والثعابين؛ الأمر الذي دفع الأب متى المسكين إلى إحضار أمصال من وزارة الصحة وكان يقوم بعملية التشريط والحقن للرهبان الذين تعرضوا لمثل هذه اللدغات. وكانت هناك مشكلة أخرى تواجه الرهبنة آنذاك ألا وهي توفير الحاجات الأساسية لحياة الرهبان؛ فقد كان الطعام قليلًا جدًا في الأديرة لاسيما دير الأنبا صموئيل؛ لأن الأديرة في ذلك الوقت كانت غير منتجة، بل كانت تعيش على معونات تأتى من خارج الدير وكانت قليلة وغير منتظمة. ويقول الأب متى في ذلك: «كان جسدي ضعيفًا لأن الأكل في دير الأنبا صموئيل كان ضعيفًا جدًا»وفي ظل الظروف السالف الإشارة إليها، كانت معظم الأديرة في مصر خالية أو شبه خالية من الرهبان المتعلمين أو المثقفين أو أصحاب القامات الروحية؛ ومن ثَم شهدت هذه الفترة رهبانًا يدفع معظمهم إلى الرهبنة الحصول على وسيلة للمعيشة بصورة شريفة؛ الأمر الذي أدى إلى وجود الخلافات والمشاجرات على المقتنيات والأوقاف الخاصة بالأديرة. وكان الأب متى نفسه يعانى من ذلك. وعن الحياة الروحية داخل الأديرة، آنذاك كانت الرهبنة عبارة عن طاعة عمياء من الرهبان للرؤساء، ووصفها الأب متى بأنها عبودية إنسانية جديدة للإنسان، فالطاعة في الرهبنة واجبة كما يرى الأب متى المسكين، ولكن للأب الروحي الممتلئ والمطيع لله، وليس للرؤساء من الرهبان التي كانت تقودهم ميولهم الشخصية غير الخاضعة لتعاليم الإنجيل في كثير من الأحيان. ويصف الأب متى أحوال الرهبنة في الوقت الذي ترهب فيه قائلًا: «ولكن الرهبنة كانت عند الرهبان (في منتصف القرن الماضي) سواء الصغار أو الكبار تسير مُغمضة في العبودية الإنسانية الجديدة للإنسان، بلا مقابل إلهي يعكس ما كان لها من ماضٍ مشرق في مفهوم الحرية الروحية؛ حتى صارت الرهبنة نوعًا من الخضوع الخانع والتقيُّد بمفاهيم الرؤساء وطاعة ميولهم الشخصية حتى غير الإنجيلية،... مستغلين المقولة المتوارثة «إن الرهبنة طاعة». ولكن أصل الطاعة في الرهبنة أنها كانت للأب الروحي والمُختبر والمُطيع لله». ورغم صعوبة الحياة في دير الأنبا صموئيل ماديًا وروحيًا، إلا أن هذا الدير شهد مولد أول مؤلفات الأب متى المسكين بل وأهمها، وهو كتاب «حياة الصلاة الأرثوذكسية» الذي أصدره عام 1952، ونقَّحه وأزاد عليه عام 1968، ثم تُرجم للإنجليزية ونشر بواسطة دار نشر تابعة لمعهد سانت فلاديمير اللاهوتي بنيويورك عام 2002م. ثمَّ انتقل الأب متى إلى دير السريان في وادي النطرون سنة 1950، وعاش متوحدًا في مغارة وسط الصخور بعيدًا عن الدير وبعد سنتين أصبح أبًا روحيًا لرهبان الدير، وصار رائدًا للنهضة الرهبانية في الكنيسة القبطية المعاصرة، وأسس أول جماعة رهبانية في العصر الحديث والمعاصر تتلمذت على يد أب روحي واحد، كما كانت الرهبنة في بدء تكوينها. وفي حديث إلى بعض الرهبان الجدد يقول الأب متى: «الطريق الرهباني نصفه منظور والنصف الآخر غير منظور. وقد رأيتُ جزءًا من النصف غير المنظور، ولذلك فأنا عاشق رهبنة. فقد رأيت المعونات وسمعت التعزيات ورأيت السماء والقوى الهائلة. رأيت وشعرت واطمأننت بعد أن قاسيت، لأن معظم جهادي كان بمفردي... كنت في أرض مقطوعة ليس لي أب ولا مرشد... فكان يبدو لي أن السماء كانت مضطرة أن ترسل لي تعزيات من حين إلى آخر... حتى لا أخور في الطريق من كثرة ما عانيت. فتأكدت تمامًا أنه يوجد قديسون... وتأكدت أن الملائكة هي أرواح مُرسَلة للخدمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص، هذا صدق، فالإنجيل صادق». ففي ذلك النص يتحدث الأب متى المسكين عن الرؤى والمعونات التي كانت تختص بحياته الروحية الرهبانية والتي ساعدته على مواصلة الطريق الروحي الشاق، إذ يقول: «ولم يكن في هذه الرؤى ما يُسرُّ، لأنها كلها كانت لتعليمي؛ إلا أنه بعد أن كانت الرؤيا تنتهي، كنت أحس بإرهاق جسدي، لأنها كانت تستحوذ على كل كياني سواء العقلي أو العاطفي، أو الجسدي أو الروحي، كما أن الرؤى كانت تختص بحياتي الشخصية» وهنا يظهر مفهوم المعونات عند الأب متى المسكين والذي يتشابه مع مفهوم الإشراق عند القديس أُغسطينوس، فكِلا المفهومين نبعا من تجربتهما الدينية. وفي عام 1954 اختاره بابا الإسكندرية «الأنبا يوساب الثاني» (1946 - 1956) وكيلًا له في مدينة الإسكندرية حيث مكث عامين هناك. ترك في شعبها أثرًا روحيًا ما زال موجودًا حتى اليوم وذلك بسبب إصلاحاته الكثيرة والتي من أهمها تنظيم الإدارة البطريركية بعمل سجلات للزواج والشهادات الرسمية، وضبط الخدمات الدينية التي يقدمها الكهنة للشعب المسيحي، والشروع في إحصاء عام لأقباط الإسكندرية هدفه تنظيم الافتقاد والخدمة للشعب، وتنظيم الإحسان بحيث لا يأخذ محتاج نصيبًا مرتين أو أكثر، وإنشاء المدرسة الإكليريكية، والإشراف على تدريس الدين بالمدارس، وإنشاء المدرسة الصناعية لتخريج شباب قادر على العمل بالمصانع، إضافة إلى تنمية موارد البطريركية مما أدى إلى سداد ديونها بل وإيداع مبلغ في البنك يُستخدم ريعه في الخدمات الكنسية، وأخيرا تدعيم الكهنوت برسامة كاهنين جامعيين إلا أنه في آخر عام 1955 آثر العودة إلى مغارته في دير السريان؛ ليكمل حياته الرهبانية، فقدَّم استقالته من منصبه كوكيل البطريرك في الإسكندرية، وعاد إلى دير السريان. ومُذاك ازداد الإقبال على التتلمذ في طريق الرهبنة. ثم ترك دير السريان عائدًا إلى ديره القديم الذي ترهبن فيه أولًا (دير الأنبا صموئيل) طالبًا المزيد من الهدوء للصلاة والكتابة، فتبعه تلاميذه الجدد إلى هناك. وقد رُشح خلال هذه الفترة للمرة الأولى ليكون بطريركًا. لكنه رفض هذا الترشيح، لأن هدف الأب متى كان هدفًا روحيًا من البداية، ولم تكن له أية أطماع في السلطة الدينية، بل وظَّف هدفه الروحي من أجل إصلاح الإنسان والمجتمع، وسيظهر ذلك بصورة جلية في الفصول القادمة. وفي عام 1959 عاد هو وتلاميذه إلى دير السريان استجابة لطلب البابا القبطي الجديد «البابا كيرلس السادس»، لكنهم لم يبقوا فيه سوى فترة قليلة آثروا بعدها أن يرجعوا إلى حياة الوحدة والهدوء للحفاظ على روح الرهبنة؛ فذهبوا إلى صحراء وادي الريان، على بعد 40 كم من حافة منخفض الفيوم في صحراء تُعرف باسم صحراء وادي الريان، حيث عاشوا في كهوف محفورة في الجبال؛ لتكون حياة مشابهة تمامًا لحياة آباء الرهبنة الأوائل، واستمروا هناك نحو عشر سنوات. يقول الأب متى عن حياة الرهبنة: «أول شيء في الحياة الرهبانية هي الدعوة. كانت عندي حرارة روحية بسيطة جدًا في قلبي، وقد أعطيتها فرصة فظلت تزيد حتى خطفتنى من العالم مع أنى كنت مقيدًا بقيود لا تُفك، فكسر المسيح لي كل قيودي... فالدعوة تأتى في شكل حرارة داخلية تظل تتزايد حتى تجعلنا نترك العالم. هذه الحرارة هي العودة إلى المسيح». وفي سنة 1969 دعاه البابا كيرلس السادس هو وجماعته الرهبانية للانتقال إلى دير الأنبا مقار بوادي النطرون الذي كانت الحياة الرهبانية فيه توشك أن تنطفئ، وكانت مباني الدير آيلةً للسقوط. فشرع الأب متى المسكين في أعمال الترميم والبناء والنهضة الرهبانية والفكرية الجديدة التي للأب متى المسكين. وفي أثناء ذلك الوقت كان يكتب الكثير من الكتب والمقالات ولعل من أهم مظاهر إصلاحه وتجديده للرهبنة عمرانيًا واقتصاديًا وفكريًا، اهتمامه بترميم العمارة القديمة للدير حفاظًا على أهميتها الأثرية بدلًا من هدمها واستبدالها بمباني جديدة، وقام بعمل قلالي صحية لسكن الرهبان بعكس ما كان موجودًا في معظم أديرة مصر، كما أقام منشآت جديدة للخدمة العامة مثل المطبخ والفرن والمضيفة والمائدة إضافة إلى معمل لتخليل الزيتون، وحظائر المواشي، ومشروع الدواجن وغيرها. واهتم باستخدام أحدث الأجهزة التي لا تحتاج من الراهب في حياته اليومية إلا إلى أقل جهد ووقت لكي يتمكن من القيام بواجباته الرهبانية. كما اهتم باستزراع الأراضي الصحراوية المحيطة بالدير وإدخال محاصيل جديدة. وقد ساعد الاهتمام بالجوانب الاقتصادية بالدير إلى توفير الغذاء والمال لرهبان الدير فأصبح الدير وحدة اقتصادية منتجة بدلًا من الاعتماد على المعونات الخارجية. كما وفر الوقت لممارسة الراهب حياة روحية سليمة. وقد أعاد الأب متى حياة الشركة والتعاون بين الرهبان، وأسس مبدأ العمل المشترك مع الصلاة، وقاد حركة التأليف حتى وفاته في 8 يونيو 2006 بعد أن أسس نهضة فكرية ورهبانية ما زلنا نتلمس صداها حتى الآن، نهضة قائمة على إيمانه بأن التعليم والتفسير والكرازة بالمسيح هي دعوة للدخول إلى ملكوت الله.