مع وصول مونديال روسيا-2018 لمشارف الأسبوع الأخير للعرس الكروي العالمي، يتوهج أدب الساحرة المستديرة وتتوالى كتابات تعيد للأذهان العلاقة الوثيقة والطريفة أحيانا بين المثقفين والرياضة وخاصة لعبة كرة القدم التي تعد اللعبة الشعبية الأولى في مصر والعالم ككل. والآن تتحدث الكرة الأرضية كلها بأبجدية كرة القدم وتتنفس بهواء الساحرة المستديرة مع دخول المونديال مربعه الذهبي واقتراب موعد حسم البطولة الكروية العالمية التي ستختتم في الخامس عشر من شهر يوليو الجاري. إنه عيد أعياد الساحرة المستديرة الذي يقترن بسيل من الكتب الجديدة حول كل ما يتعلق بالعرس الكروي العالمي وهي كتب تتوزع على طيف عريض أو مروحة كبيرة بدءا من تلك الكتب الإرشادية والأقرب للكتيبات مثل كتاب "دليل أساسي لكأس العالم 2018 في روسيا"، حيث يجد القارئ المعلومات الجوهرية عن الفرق ال32 التي توزعت على ثمان مجموعات في المونديال مرورا بكتب مشاهير اللعبة ونجومها أو "السوبر ستارز"، مثل ذلك الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان: "كريستيانو يوليو" لجيمي بيرنز. وهذا الكتاب محوره التنافس المثير على لقب أفضل لاعب في التاريخ بين البرتغالي كريستيانو رونالدو نجم ريال مدريد والأرجنتيني ليونيل ميسي نجم برشلونة فيما كان للمونديال الحالي أن يفجر مفاجأة من مفاجآته المتعددة عندما خرج منتخبا البرتغال والأرجنتين معا من العرس الكروي العالمي الحالي قبل الوصول حتى للمربع الذهبي للبطولة. وقد ينتهز بعض المؤلفين فرصة العرس الكروي العالمي لإصدار طبعات جديدة من كتبهم التي صدرت من قبل مثلما فعل القاص والكاتب الكروي البريطاني بريان جلانفيل الذي أصدر طبعة جديدة من كتابه "قصة كأس العالم". ولئن ذهب نفر من النقاد إلى أن مستوى المهارات النوعية في دوري الأبطال الأوروبي أعلى بالمقارنة مع مباريات المونديال الحالي الذي يشهد ككل مونديال صراعا بين مدرستي الكرة الأوروبية والأمريكية اللاتينية وهو ما اعتبره بعض المعلقين بمثابة محاولة "لتكريس نوع من الأرستقراطية أو المركزية الكروية الأوروبية" فان مونديال 2018 يتحول في مربعه إلى منافسة بين منتخبات أوروبية بما يشكل صدمة لعشاق الكرة الأمريكية اللاتينية الجميلة وخاصة بعد خروج منتخب البرازيل أمس الجمعة، بهزيمة أمام البلجيكيين. ولئن كان من الطبيعي أن يشعر البرازيليون بالحسرة حيال خروج منتخبهم الوطني من المونديال الحالي دون الوصول لمربعه الذهبي ففي بلد كالبرازيل عاشق لكرة القدم ويتنفس هواء الساحرة المستديرة لن يكون من الغريب أن تظهر إبداعات أدبية وتتوالى كتابات ثقافية حول هذه اللعبة الجميلة والحقيقة ذاتها تنسحب على الثقافة الأمريكية اللاتينية وكتاب هذه المنطقة التي تعشق كرة القدم والرقص والموسيقى وتحتفل بالحياة رغم كل المحن!. ولعل ذلك كله يتجلى في الكتاب الشهير لعشاق الساحرة المستديرة "كرة القدم بين الظل والشمس" لإدواردو جاليانو الذي صدر عام 1995 وهو في الحقيقة بمثابة "رسالة حب لكرة القدم" أو اللعبة الشعبية الأولى في أغلب بلاد العالم أو على حد وصف مؤلفه "هو تكريم لكرة القدم واحتفاء ببهجة أضوائها". والطريف إن هذا الكتاب الذي كاد أن يتحول إلى المرجع الذهبي في شؤون وشجون الساحرة المستديرة وبطولات كأس العالم لم يكن مؤلفه إدواردو غاليانو بالصحفي الرياضي المتخصص وإنما هو في الأصل صحفي وباحث يحب كرة القدم شأنه شأن الملايين في بلاده أورجواي وأمريكا اللاتينية ككل. والحقيقة إن كتاب "كرة القدم بين الظل والشمس" ليس بالكتاب المتخصص في النواحي الفنية للساحرة المستديرة بقدر ما هو كتاب يتناول أجواء اللعبة الشعبية الأولى وجوانبها المختلفة وسياقاتها المتعددة بما فيها السياق السياسي وبطولات كأس العالم التي عاصرها منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين وحتى منتصف العقد الأخير من ذلك القرن. إنها "الساحرة المستديرة" لعبة الابتسامات والدموع كما يشير كتاب آخر صدر بمناسبة المونديال وهو كتاب :"هتافات, دموع وسخريات-تاريخ إنجلترا وكأس العالم" ويتناول فيه المؤلف جاري ثاكير تاريخ منتخب إنجلترا الذي لم يفز بكأس العالم إلا مرة واحدة في عام 1966 وهي حقيقة من غرائب كرة القدم لأن إنجلترا تفخر بأنها مهد كرة القدم الحديثة. وهذا الكتاب الجديد كما هو ظاهر من عنوانه حافل بالمفارقات التي تتسم بها الساحرة المستديرة وبما قد يثير أحيانا تساؤلات لدى البعض حول عدالتها رغم أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كان يعتبر أن هذه اللعبة العالمية هي الأكثر عدالة. ومحمود درويش الذي قضى في التاسع من أغسطس عام 2008 نموذج للمثقف الكبير العاشق للساحرة المستديرة ومازال الكثير من قراء هذا الشاعر الفلسطيني العربي الكبير يستعدون كتابات له تدخل في "أدب كرة القدم" مثل تأملاته عن أسطورة الكرة الأرجنتينية مارادونا. وإذا كان مثقفون وكتاب عظام في الأدب المصري المعاصر مثل نجيب محفوظ وخيري شلبي وإبراهيم أصلان قد عرفوا بعشقهم لكرة القدم فإن الكاتب والشاعر فاروق جويدة أحد هؤلاء المثقفين المصريين والعرب الذين ابدوا شعورا واضحا بالأسى للخروج المبكر للمنتخبات العربية من العرس الكروي العالمي الحالي. ولئن كانت القيم الرياضية تشكل "ثقافة مضادة لليأس فان المفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون قد رصد بألمعيته وعقله المتوثب اللاقط ظاهرة ولع المغلوب بتقليد الغالب، فالظاهرة التي تحدث عنها ابن خلدون في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي مازالت حاضرة بقوة في أوجه الحياة المتعددة ومنها الرياضة بالقرن الواحد والعشرين وقد تتجلى اكثر واكثر في العرس الرياضي العالمي الحالي الذي افتتح في الرابع عشر من شهر يونيو الماضي . ولعل النموذج المضاد للهزيمة يتجلى في عديد الكتب الرياضية ومن بينها كتب تتناول ألعاب رياضية أخرى غير كرة القدم مثل كتاب "حياة في بركة.. يوميات سباح"، الذي أصدره رجل في الثمانينيات من العمر وهو الشاعر والكاتب والسباح البريطاني ومتسلق الجبال آل فاريز. والكتاب وصفه نقاد في الصحافة الثقافية الغربية بأنه "مدهش" فهو ينفذ في جوهره لثقافة الانتصار الرياضة والحياة على وجه العموم "بتحدي الظروف القاسية وقهر المعوقات بدلا من الاستسلام لها" كما تعبر عنها جسارة قفزة لسباح في مياه الشتاء القاسية، إنه النموذج المضاد للهزيمة وهو بمعنى من المعاني جوهر أي لعبة رياضية. وعلى إيقاع العرس الكروي العالمي الحالي الذي يدخل مربعه الذهبي، تثير العلاقة بين المثقفين والرياضة العديد من التساؤلات ولا تخلو من طرائف فيما قد ينطبق على علاقة بعض المثقفين بالمونديال ما قاله يقول الكاتب بريان كورتز في مقال بعنوان "المثقف والكرة". فقد أشار هذا الكاتب الأمريكي إلى أنه مع بدء البطولة يدخل العديد من البشر في عالمنا حالة يسميها "بخلوة المونديال" بعد أن انقطعوا عن الاهتمامات الأخرى وتناسوا همومهم التي بددتها البطولة". وهؤلاء البشر الذين دخلوا "خلوة المونديال" وتوحدوا مع مبارياتها الحافلة بالتشويق يرددون بحماس الهتافات وعندما يلعب الفريق الذى يشجعونه فإن الأمر يبدو بالنسبة لهم كما لو كان مصير العالم يتوقف هذه المنافسة". وعلى نحو يعيد للأذهان علاقة عشق لكتاب كبار وسادة إبداع الكلمة بالرياضة وخاصة كرة القدم ومن بينهم في مصر أديب نوبل نجيب محفوظ والعلامة والمحقق اللغوي الكبير محمد محمود شاكر-تأتى إطلالة كاتب الأورجواي الشهير إدواردو جاليانو في كتاب يؤكد فيه على هذه العلاقة بين إبداع القلم والإبداع على المستطيل الأخضر!. واذا كان أديب نوبل المصري وهرم الرواية العربية نجيب محفوظ قد أشار مرارا في كتاباته وأحاديثه وحوارات أجريت معه لعشقه لكرة القدم وإجادته لمهارات الساحرة المستديرة وانخراطه كلاعب في مبارياتها أيام الصبا وباكورة شبابه قبل أن يكرس حياته للإبداع بالكلمة فان العلامة والمحقق المصري الراحل محمد محمود شاكر عرف أيضًا بحبه لكرة القدم وهو ما ينطبق على ثلة من المبدعين بالكلمة من بينهم سيد الإبداع في الأورجواي إدواردو جاليانو وصاحب الكتاب الشهير "كرة القدم في الظل والشمس". وبقدر ما يثير الجدل ويتناول مواطن الخلل والوجع في هذا العالم ويهجو الرأسمالية المنفلتة في كتاب آخر صدر بعنوان "أبناء الأيام" ويهاجم الإسبان في عقر دارهم جراء خطايا تاريخية ارتكبت خلال ما سمي باكتشاف العالم الجديد ضد السكان الأصليين فان إدواردو جاليانو لم يتخل عن عشقه الأثير "للساحرة المستديرة" حتى انه اهدى مقتطفات من هذا الكتاب الهام لفريق برشلونة. ولعل اختيار إدواردو جاليانو لبرشلونة لتكون المحطة الأولى في سياق جولة إسبانية بمناسبة صدور هذا الكتاب كان في حد ذاته نوعا من التكريم المقصود للفريق الذى يحمل اسم هذه المدينة ، فيما اكد مجددا على انه يتفق مع اختيار اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي كأفضل لاعب في العالم غير أن المونديال الحالي قد وضع ميسي في مهب الريح وسهام الشكوك والانتقادات الجارحة. وفيما يوصف جاليانو الذى ولد عام 1940 في مونتفيديو "بالكاتب المثير للجدل والمشاكس دوما" لن ينسى عشاق الرياضة في مصر والعالم العربي أن شيخ النقاد الرياضيين المصريين الراحل نجيب المستكاوي كان مثقفا لامعا وصاحب اهتمامات وإسهامات ثقافية فيما قدم للمكتبة العربية ترجمات مبدعة لأعمال كلاسيكية أدبية وثقافية جنبا إلى جنب مع كتاباته كناقد رياضي . وفي سياق المونديال الحالي، لفت الكاتب والشاعر اللبناني يوسف بزي أنظار عشاق الساحرة المستديرة بتحليلاته المبتكرة وتعليقاته الطريفة على "موقع درج" الإنترنتي حول مباريات بطولة كأس العالم لكرة القدم. ويقول الناقد الأدبي العراقي الدكتور صالح هويدي: "إن المثقف أو الأديب لا يحمل جينات خاصة تميزه عن بقية الجنس البشرى وهناك مثقفون مولعون دون شك بلعبة من الألعاب الرياضية وأكثرها شعبية كرة القدم أما أسباب الولع فمتعددة وان كان اغلبها يرجع إلى فترة النشأة الأولى وهوايات الصبا" فيما يرى الكاتب الجزائري محمد حسين طلبي أن "هناك نوعا من الغيرة التي يبديها بعض الأدباء تجاه معشر الرياضيين نظرا لحجم ونوعية الرعاية التي يحظى بها اللاعبون وعلى الأخص في كرة القدم". غير أن الكاتب الجزائري ينتقد الأدباء الذين يشعرون بالغيرة من لاعبي كرة القدم، معتبرًا أن اللاعبين المجيدين "مبدعون" ومشبها اللاعبين الذين يجيدون المراوغة وتسجيل الأهداف الجميلة بالشعراء الذين يمتعون جمهورهم. وفى كينيا- لا يخفى مثقف لامع وكاتب من أصحاب الأقلام المبدعة هو "أودور أونجوين"، ولعه بكرة القدم رغم انه تخصص في الاقتصاد ويعد من الخبراء الذين يشار لهم بالبنان في هذا المجال فيما يطرح رؤى غير تقليدية . ومن طرائف كتاباته انه اعترف بأنه تعرض في المونديال لحالة من التمزق بين قلبه وعقله أو بين ميوله الرياضية وشغفه "بالساحرة المستديرة"، وبين تخصصه في الاقتصاد، حيث تفرغ لمتابعة مباريات المنتخبات الإفريقية في البطولة الكروية العالمية على حساب دراسة كان يعكف على إعدادها. واذا كان أودور أونجوين من المثقفين الأفارقة الذين لم يتخلوا عن حلم "فوز منتخب إفريقي يوما ما ببطولة كأس العالم" ، فانه لا يكف في كتاباته كخبير اقتصادي مرموق عن توجيه انتقادات لاذعة لظاهرة "اللا تكافؤ والفجوة الشاسعة بين وفرة الإمكانات والموارد الطبيعية للقارة السمراء والعجز عن استغلال هذه الموارد والإمكانات لصالح الأفارقة"، مبديًا بالغ أسفه "لأن البعض في إفريقيا برع في كيمياء تحويل الذهب إلى تراب بدلا من العكس"!. وبرؤية لا تخلو من طرافة، يقول أونجوين: "واقع الحال في اللحظة الراهنة لا يختلف في الرياضة عنه في الاقتصاد على مستوى العالم، فكما يحدث في البطولات الرياضية العالمية ستجد في التقسيم الدولي للعمل أن بعض الدول تخصصت في الفوز والانتصارات بينما تخصصت دول أخرى في الخسارة وان خسائر إفريقيا لا تعنى في الحقيقة سوى مكاسب للآخرين". وعلى أي حال، فإن "أدب الساحرة المستديرة"، يتوهج في سياق العرس الكروي العالمي الحالي وما يشهده من تداخل وتفاعل وتشابك مثير بين الثقافة وكرة القدم، إنها اللعبة الجميلة تتحدث عن نفسها في عيد أعيادها وهي في مفارقاتها ومفاجآتها قد تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات!، ولكن آليس ذلك حال الدنيا ككل؟!.