يتغير الزمن وتتغير الأدوات والأشكال في شتى المجالات، فالتطور يلحق بالإنسان أينما حل، وبالأشياء أينما وجدت، فليس غريبا أن يظهر نوع من الأدب يسمى أدب الإنترنت أو أدب المدونات الذي حاول به بعض الشباب مغازلة الأدب والمهتمين به عبر نافذة الإنترنت. يا له من حلم سعوا إليه، كحلم بديل عندما ضاقوا بفرص التعبير عن أنفسهم وعن موهبتهم عبر الكتابة الورقية، فالمدونات خلقت فضاء رحبا وفسيحا أمام الأدب، بعد أن تمّ سدّ المنافذ الأخرى في وجه المبدعين أو الحالمين بالإبداع، ولم تعد تقبلهم الصحف والمجلات أو دور النشر الورقي فوجدوا العصا السحري في المدونات وإن كانت المدونة تفتقد القدرة على تطوير الأدوات، إلا أنها صارت متنفّساً للكثيرين من جيل الشباب إلى التعبير عن إبداعهم بلغتهم الخاصة التي هي أقرب إلى العامية وهي مرآة الواقع الذي نحياه، فلم يجد المبدعون أو الحالمون بالكتابة إلا الارتماء بإبداعاتهم في حضن الشبكة العنكبوتية عبر مدوناتهم، وهناك من نجح وهناك من أخفق لكنها الحياة التي تتأرجح دوما بين إخفاق ونجاح، ومن يملك ملكة الإبداع لن تعيقه طريقة النشر أيا كانت عن إظهار إبداعه سواء كان النشر يتم بالطريق التقليدي عبر الكتابة الورقية أو بالطريقة الحديثة عبر الإنترنت من خلال ما يسمّى ب "أدب المدونات"، وهناك أسماء لمعت من خلال الكتابة عبر الإنترنت، ومنحت الإبداع قدرا من السخرية في عالم التدوين، وحققت شهرة لا بأس بها ك "غادة عبد العال" التي بدأت طريق الإبداع عبر مدونتها الساخرة "سوسة المفروسة"، ثم مدونة "عايزة أتجوز"، ثم مدونة "من جوّه"، وبعد الانتشار والنجاح اللافتين لمدوناتها طبعت عايزة أتجوز في كتاب وحقق نجاحا منقطع النظير. فقارئ الإنترنت متعجل ولا يتحمل قراءة النصوص الطويلة، وعلى عكس الكتاب المطبوع فلن تجد نصوصا تمتد إلى 600 صفحة أو أكثر في الإنترنت، بل هي نصوص مخصرة وخفيفة نسبيا، فالكتابة عبر المدونات منحت لغة الإبداع قدرا أكبر من السخرية وجعلت اللغة أكثر تكثيفا، ومن أبرز التغيرات التي أحدثتها المدونات كانت في عملية الترويج للكتاب وتسويقه على نطاق واسع عبر طرحه لعدد كبير للغاية من القراء، ونشر أخبار عن حفلات التوقيع والندوات المقامة عنه، وهو ما يدفع الأدب للأمام ويمنحه قوة منشطة ومطلوبة. * الإبداع يفرض نفسه أينما حلّ.. ويرى البعض أن الفضاء الواسع الذي يتيحه الإنترنت من المؤكد أنه ساهم في حل علاقة الإيصال والتواصل بين المبدع والمتلقي، فأصبحت تتم بمجرد الضغط على زر في الكمبيوتر، لكن هذا الفضاء الرحب والمرن هو في النهاية مجرد وسيلة، ولا يمكن أن يصنع كاتبا لا يتمتع بالموهبة الحقيقية، شاعرا كان أو روائيا أو مسرحيا، وأغلب أدب المدونات يتسم بالدردشة والثرثرة، ويفتقر إلى أبسط قواعد الانضباط النقدي واللغوي، إنه أدب هجين، لا يسعى إلى التأصيل والخصوصية، بقدر ما يسعى إلى سرعة الانتشار، كما أنه مسكون بإيقاع الميديا اللاهث، وهو إيقاع عابر كثير التبدل والتغير، بينما الأدب والإبداع يحتاجان إلى وقت وتمهل، واحتشاد وإعادة للقراءة والمراجعة والتأمل حتى تنضج ثمرته، ويتم قطفها في أوانها. * أدب الأنترنت أدب هجين.. للدكتور عمار علي حسن، الباحث والروائي وأستاذ علم الاجتماع، رأي في التغيرات الإيجابية والسلبية التي تصيب الإبداع عبر المدونات الإلكترونية، فيرى أن الإبداع هنا يكتسب تعبيرات جديدة مستمدة من استعمال الإنترنت، وأغلبها تعبيرات هجينة تخلط بين العربية والإنجليزية، ويمتد الأمر إلى التشبيهات والصور فيمد العالم الافتراضي الأديب بمدد جديد. وإذا كانت المدونات أتاحت الكتابة والإبداع وجذبت قراء جددا بعيدا عن سيطرة دور النشر التقليدية فإن لها سلبياتها وتأثيراتها غير المحببة أحيانا على الأدب، حيث سمحت لبعض المدعين والدخلاء بكتابة نصوص ركيكة وجدت طريقها إلى المتلقي دون أن تمر على لجنة اختيار أو تقييم على غرار تلك اللجان الموجودة في دور النشر. ومن بين السلبيات الأخرى أن المدونات تشترط لمن يتعامل معها ويقرؤها الإلمام بقواعد الإنترنت ومهارات الكمبيوتر، وهو ما يعني استبعاد شريحة كبيرة من الكتاب والنقاد ممن لا يجيدون تلك المهارات حتى اليوم، ومن هنا يأتي عدم الاستفادة من النقد بالشكل الأمثل، بل إن القراء أنفسهم سيتسمون بصفات وشروط مسبقة وسيحرم من الإبداع قطاع عريض من المتلقين. * روايات الهاتف المحمول في اليابان.. ومثلما كان الحال في مصر مع أدب المدونات كان الحال في اليابان، التي ظهرت فيها منذ فترة فكرة كتابة روايات على الهواتف المحمولة وقراءتها من قبل الأشخاص المعجبين على شاشات هواتفهم، ولم يتقبلها النقاد والمهتمون بالأدب والقائمون عليه في اليابان، التي أعطت العالم أول رواية قبل ألف عام - إنها "حكاية الجني" الأكثر مبيعا في اليابان - حتى حدثت المفاجأة وصارت الروايات المكتوبة على الهواتف الجوالة هي الأكثر مبيعا في اليابان، وأعيد طبعها في كتاب وهي لم تنشر بين الكتب الشائعة بل تمكنت من التغلب عليها، فمن بين أكثر عشر روايات رواجا كانت هناك خمس منها مكتوبة في الأساس على هواتف محمولة، وأغلبها قصص حب كتبت بجمل قصيرة، لكنها تتضمن قدرا من الحبكة أو تطورا للشخصية يمكن العثور عليه في الروايات التقليدية، والأكثر من ذلك هو أن أكثر الروايات الثلاثة رواجا هي تلك المكتوبة على هواتف محمولة. * شكل يدعو إلى تدهور الأدب الياباني.. والمعجبون بها في اليابان يعتبرونها صنفا أدبيا جديدا تم خلقه واستهلاكه على يد جيل لا تزيد قراءاته عن كتب القصص المصورة، وقال بعض النقاد "إن ظاهرة هيمنة الروايات المكتوبة على الهواتف المحمولة مع نوعيتها السيئة سيسرع في تدهور الأدب الياباني". * شركات المحمول ساعدت كثيرا في انتشارها.. ويبدو أن ازدهار هذا النوع الجديد من الروايات جاء نتيجة لقرار شركات الهواتف الجوالة بعرض تحويل غير محدود لمعلومات مكتوبة، مثل الرسائل النصية، كجزء من إغراء استخدام ماركاتهم، ويتوافق توفر الهواتف المحمولة بأسعار مناسبة مع حلول جيل من اليابانيين ممن تُعتَبر الهواتف المحمولة بالنسبة لهم أكثر من الكمبيوترات الشخصية جزءا لا يتجزأ من حياتهم منذ المدرسة الثانوية، ولهذا فإنهم يقرأون الروايات على هواتفهم المحمولة، على الرغم من أن المواقع على الإنترنت ذاتها متيسرة على الكمبيوتر، وهم يدونون الرسائل النصية بأطراف أصابعهم وبسرعة هائلة، ويستخدمون تعبيرات ورموزا مثل التشبيهات والنوتات الموسيقية التي غابت تنويعاتها الدقيقة بالنسبة لكل من تجاوز الخامسة والعشرين من العمر. * الإناث أكثر كتابة لروايات الهاتف المحمول من الذكور.. في روايات الهاتف المحمول أنت لست بحاجة إلى التصوير العاطفي في مكان معين، إذا ما بقيت مقتصرا على مكان معين فإن القراء لن يكونوا قادرين على الشعور بالأشياء المألوفة، ويبدو أن كثيرا من روايات الهاتف المحمول، المكتوبة بالشخص الأول مثل يوميات، وجميع المؤلفين تقريبا من الشابات اللواتي يكتبن عن القضايا العاطفية، وربما كن السليلات الروحيات ل "شيكيبو موراسكي"، ال "ليدي" التي عاشت في القرن الحادي عشر وكتبت "قصة جينجي"، والغريب أن رواية "سماء الحب" - وهي الرواية الأولى لشابة اسمها "ميكا" - قد قرئت من جانب 20 مليون شخص على الهواتف المحمولة أو على الكمبيوترات. * كتابات كوميدية.. وإذا ما أخذنا هيمنة روايات الهاتف المحمول على الاتجاه السائد، فإن النقاد لم يعودوا رافضين لها، على الرغم من أن البعض يقولون إنها يجب أن تصنف ضمن الكتب الكوميدية أو الموسيقى الشعبية، وبينما تؤدي شعبية هذا النوع الأدبي بمزيد من الناس إلى كتابة روايات الهاتف المحمول، فإن سؤالا مهما يطرح نفسه: هل يمكن لعمل أن يسمّى رواية هاتف محمول إذا لم يكن مؤلفا على هاتف محمول، وإنما كان مؤلفا على كمبيوتر أو بخط اليد؟، والإجابة التي تفرض نفسها هنا هي أنه عندما يكتب عمل على الكمبيوتر فإن الفارق في عدد السطور يختلف، والإيقاع أيضا يختلف عما هو عليه الحال على الهاتف المحمول، ولن يعتبر بعض النقاد ذلك العمل من روايات الهاتف المحمول. * رواية على الهاتف المحمول يقرؤها 25 مليون ياباني.. وقد ضربت رواية "كوازورا" - أو "سماء الحب" للروائية اليابانية المعاصرة "ميكا" - رقمًا قياسيًا في حجم المبيعات منذ صدورها ونشرها على شاشات التليفون المحمول، حيث قرأها أكثر من 25 مليون ياباني، وخاصة من الفترة العمرية من 10 إلى 24 عامًا. * هل سيلجأ الكتاب المغمورون في مصر إلى رواية الهاتف المحمول؟.. ونجد أن أدب المدونات في مصر وأدب روايات الهاتف المحمول في اليابان نوعان من الآدب قد فرضا ذاتيهما على جيل جديد من الكتاب والقراء، وعلى الأدب ذاته، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تتجه شركات المحمول إلى تنفيذ تلك الفكرة اليابانية؟، وهل يتجه صغار الكتاب والمبتدئون إلى سلك هذا المسلك الياباني في كتابة إبداعاتهم ورواياتهم وقصصهم عبر الهاتف المحمول، كما فعلوا من قبل بالكتابة عبر الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر حينما قاموا كتابة مدوناتهم؟.