بعد تسعة أشهر من دخوله الإليزيه ، يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحديا جادا يتمثل في تراجع ملحوظ في شعبيته إلى أدنى مستوى منذ أكتوبر الماضي، وهو ما جعل العديد من المراقبين يتوقعون بداية مرحلة جديدة صعبة في فترة حكمه ، خاصة في ظل تصميمه على المضي قدما في سياساته الإصلاحية التي بدت ثقيلة على أسلافه من الرؤساء. وأظهرت مختلف استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا - وكان آخرها استطلاع معهد "إيفوب" لاستطلاعات الرأي والذي نشرته جريدة "لوجورنال دو ديمانش" يوم الأحد الماضي - تراجعا حادا في شعبية الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه إدوارد فيليب. كما أظهر الاستطلاع الأخير لمعهد "إيفوب" انخفاض شعبية الرئيس بواقع 6 نقاط عن الشهر الماضي ، حيث وصلت نسبة مؤيديه إلى 44% بينما عبَر 55% من المستطلعة أراؤهم عن عدم رضاهم عن سياسات ماكرون، كما تراجعت شعبية رئيس الوزراء الفرنسي من 49% إلى 46%. ورغم أن شهر فبراير كان دائما قاسيا بالنسبة للرؤساء الفرنسيين الجدد، حيث شهد كل من الرئيسين السابقين نيكولا ساركوزي وفرنسوا أولاند تراجعا ملحوظا في شعبيتهما عامي 2008 و2013، أي بعد ثمانية أشهر من وصولهما إلى كرسي الإليزيه غير أن المراقبين يرون أن الوضع يبدو أكثر صعوبة مع الرئيس ماكرون. فساركوزي وأولاند كانا يستندان على القاعدة الجماهيرية العريضة لمعسكري اليمين واليسار، أما ماكرون فهو يفتقد وجود قاعدة جماهيرية حقيقية، فقد اُنتخب في الجولة الأولى من الانتخابات في أبريل الماضي بنسبة 24% من الأصوات مع نسبة حضور ضعيفة من جانب الناخبين، وجزء كبير من الذين انتخبونه في الجولة الثانية كان احتجاجا على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن وليس تأييدا له، وبالتالي فإن جملة من انتخبه لا يُمثل أكثر من 15% من إجمالي عدد الناخبين الفرنسيين بصفة عامة. كما أن سياساته قد تعارضت مع مصالح تخص الفئات العريضة من القواعد الانتخابية لليمين واليسار، وهو ما يضعه في مأزق إذا لم ينجح في رفع أسهمه لدى المواطنين. ويبدو أن السياسات الإصلاحية التي يتبناها الرئيس ماكرون وحكومته لم تلق حتى الآن إعجابا من قبل الشعب الفرنسي، وهو ما ظهر بوضوح في خسارة حزب الرئيس "الجمهورية إلى الأمام"، مقعدين في الانتخابات الجزئية التي أجريت في الخامس من فبراير الجاري، حيث بدت هذه الخسارة وكأنها عقاب للرئيس وحكومته على السياسات المتبعة التي زادت من الاستياء الشعبي في الشارع الفرنسي. ويرى المراقبون أن هناك عدة أسباب قد ساهمت في التراجع الملحوظ لشعبية الرئيس الفرنسي الجديد ورئيس حكومته ، أولها سلسلة التعديلات الجذرية للقوانين التي يتبناها الرئيس ماكرون منذ وصوله للرئاسة في مايو الماضي والتي نادى بها خلال حملته ، وكان أبرزها تعديل قانون العمل، أحد أهم وعوده الانتخابية وأكثرها جدلا. ويركز التعديل بالأساس على وضع حد أقصى لتعويضات الصرف والاستغناء عن النقابات خلال التفاوض في شركات يقل عدد موظفيها عن 50 موظفا... ولم يحظ هذا التعديل بقبول واسع من الفرنسيين ، حيث اعتبر فريق واسع من المواطنين أن هذا التعديل سيخدم مصالح أرباب الأعمال بالدرجة الأولى، واندلعت العديد من الاحتجاجات المناهضة له. من بين الأسباب أيضا التي ساهمت في تفاقم حالة السخط الشعبي، ارتفاع الضرائب المفروضة على الطبقة المتوسطة وأصحاب المعاشات خاصة بعد فرض زيادة فى ضريبة "المساهمة الاجتماعية العامة #### ((CSG" ####، وهي ضريبة لتمويل الحماية الاجتماعية ، وهذه الزيادة تشمل نحو 60 % من المتقاعدين أي ما يعادل 8 ملايين شخص والتي ستكبدهم خسارة بواقع 408 يوروهات سنويا بالنسبة لمن يتقاضون شهريا 2000 يورو ، وتسببت هذه الزيادة في تظاهر آلاف المتقاعدين في شوارع فرنسا احتجاجا على هذه الإصلاحات. كما ساهمت هذه الإصلاحات بدورها في انخفاض القوة الشرائية للمواطنين وتزايد الاستياء الشعبي ، وهو ما عبَر عنه الباحث في معهد إيفوب، فريديريك دابى، بأن "هناك تأثيرا مخيبا للآمال بسبب التناقض الشاسع بين خطاب ماكرون ووعوده بزيادة القدرة الشرائية وبين التأثيرات الحقيقية لسياسته..حتى الرئيس ماكرون نفسه قد أقر فى لقائه الأخير مع الصحفيين، بأن تأخر نتائج الإصلاحات التي يجب انتظار فعاليتها سنة 2020، يدفع الفرنسيين إلى فقدان الصبر بل والاستياء. ويتوقع المراقبون أن تزداد الأوضاع اشتعالا في الفترة المقبلة، خاصة مع الإعلان الحكومي عن قرب إجراء إصلاح جذري في "الشركة الوطنية للسكك الحديدية"، ونية الحكومة لخصخصة هذه الشركة ، وهو ما يبشر بحراك اجتماعي كبير ، خاصة وأن نقابة "سي جي تي"، والتي لها تمثيل الأغلبية في هذه الشركة، قد وعدت برد قاس في حالة الخصخصة ، داعية المركزيات النقابية الخمس للوحدة ، كما دعا أمينها العام فيليب مارتينيز إلى مظاهرة كبرى في 22 مارس القادم ، مهددا بأنه في حال الإضراب فلن "يتحرك قطار، ولن يستطيع أحد الحركة". كما يمثل قانون الهجرة واللجوء الجديد أحد القضايا التي تثير الجدل على الساحة الفرنسية، ويهدف القانون بالأساس إلى تشديد شروط الهجرة والتسريع من وتيرة ترحيل طالبي اللجوء المرفوضة طلباتهم .. وسيعرض مشروع هذا القانون اليوم على مجلس الوزراء، وهو يلقى العديد من التحفّظات من بعض نواب حزب الرئيس "الجمهورية إلى الأمام"، وأيضا من جمعيات مدافعة عن المهاجرين وحقوق الإنسان، حيث يرون أن مشروع القانون متشدد ويناقض تقاليد اللجوء المعتمدة في فرنسا. إضافة لما سبق، يشير فريق من المراقبين إلى أن المجموعة المحيطة بماكرون - سواء بعض الوزراء أوالقادة والأعضاء بحزب "الجمهورية إلى الأمام" - قد لعبوا دورا في انخفاض شعبية الرئيس ، ويوضح هؤلاء المراقبون أنه إذا كان الرئيس وقواته يتحركون بصورة سريعة في تنفيذ السياسات الإصلاحية متجاوزين الكثير من القواعد التقليدية للحياة السياسية الفرنسية، فإن الطريقة ونقص الخبرة السياسية تبعدهم أحيانا عن قطاعات من المجتمع، وتدفع بهم في أحيان أخرى إلى الارتجال، وهو ما قد يشكل خطرا كبيرا في إطار عملية تغيير جذرية وشاملة للمجتمع. وفي ضوء المشهد السابق، يبدو واضحا أن الرئيس ماكرون أمام اختبار حقيقي في الفترة المقبلة ، ففي الوقت الذي يرفع فيه راية فرنسا في الخارج ويسعى بكامل قوته لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية، فإنه مهدد داخليا بزيادة حالة السخط الشعبي وتفاقم الحراك الاجتماعي نتيجة سلسلة الإصلاحات الجديدة، وسيقع على عاتقه خلال الفترة المقبلة مهمة ثقيلة تتمثل في كيفية الاستمرار في تلك الإجراءات الإصلاحية مع إقناع المواطنين أن جني ثمارها لن يكون على المدى القصير ، وحثهم على المثابرة والانتظار ، خاصة أنه حدد مهلة من 18 شهرا إلى عامين لتقديم حصيلة أولى لإصلاحاته.