لا توجد عبارات فى اللغة يمكن أن تعبر عن فظاعة جريمة «مسجد الروضة» بالعريش الجمعة الماضية، فالخطْب عظيم والمصيبة كبيرة، ولم يعد من الممكن تفسير مثل هذه الجرائم المروعة المتتابعة فى بلاد الإسلام بالتفسير الاعتيادى الذى يحصر المسئولية فى الجماعات المتطرفة المعزولة والشاذة. لا بد من الإقرار بأن الخلل وصل إلى عمق نمط التدين السائد فى مجتمعاتنا ثقافة وعقيدة وسلوكًا، حتى لو كانت الأغلبية المطلقة بطبيعة الحال غير مسئولة عن هذه الفظائع غير المسبوقة. فى تاريخنا الماضي، مرت المجتمعات المسلمة بفتن مظلمة دامية، بيد أن الجسم الإسلامى العام ظل متماسكًا فى وجه الجماعات المتشددة والطوائف الشاذة.. والخشية اليوم ألا يكون هذا الجسم قادرًا على امتصاص الصدمات الرهيبة التى تنخر الأمة من داخلها. فما لا نستشعره هو أن خطوط حماية وصيانة الجسم الإسلامى تهاوت إلى حد بعيد فى الأعوام الماضية، ولعل أبرز هذه الخطوط ثلاثة: - التقليد الذى تشكل على مدى قرون واختزن تجربة الأمة فى تأويل دينها وبناء قوالبها الثقافية، من خلال التفاعل الحى بين النص والواقع المتغير. وعلى عكس الوهم الذى تستند إليه التيارات التأصيلية اليوم فى نزعتيها السلفية الراديكالية والإيديولوجية السياسية (الإسلام السياسي) ليس التقليد سلطة معيقة للاجتهاد والتأويل، بل هو أفق رحب للتجديد لثرائه وتنوعه ومرونة قوالبه الثقافية، فى حين أن العلاقة المباشرة والحرة بالنص ممتنعة مستحيلة، وهى فى حصيلتها النهائية إفقار للنص واختزال له فى فهم ذاتى ضيق بما يؤدى إلى انتزاع النصوص من سياقاتها وفصلها عن التجارب المعيشة للأمة. وما نلاحظه راهنًا هو التراجع التدريجى المريع للفقه، من حيث هو ممارسة تأويلية تشريعية تستند إلى نسق مرجعى مرن وحى، فى الوقت الذى نشهد فيه تضخم المنظومة المقاصدية فى اتجاه بناء منهجية جديدة لتقنين أحكام الشرع بمنأى عن القواعد والأصول والضوابط التى بلورها التراث الفقهى (وصل هذا التوجه مداه فى أدبيات معهد الفكر الإسلامى بواشنطن). - مفهوم «الجماعة» المحورى فى نظام الاجتماع الإسلامى بدلالتيه العقدية والتنظيمية. والدلالة العقدية هى التى يعبر عنها مفهوم الإيمان بصفته انخراطًا فى الجماعة ودخولًا فى «أهل القبلة»، بما يعنى أن العقيدة ليست قانونًا يستطلع الضمير والوعي، بل هى تعبير عن الانتماء للأمة واندماج فى هويتها المرجعية العامة يكفى فيه النطق باللسان والدخول فى السواد. ومن هنا مذهب أهل السنة فى عدم التكفير بالتأويل وبالعمل وقبول الأمة فى تنوعها واختلاف مشاربها، فى حين ما نلمسه راهنًا هو تحول العقيدة إما إلى قانون للإيمان يكفر الخارج عليه (بما تزامن مع النكوص عن مذهب عموم أهل السنة الذى هو الأشعرية) أو إلى إيديولوجيا إقصائية مغلقة (لاهوت «الحاكمية» فى الإسلام السياسي). أما الدلالة التنظيمية للجماعة فتتمثل فى كونها حجر الزاوية فى نظام الاجتماع الأهلي، بصفتها مستودع القيم العامة المشتركة ووسط الاندماج العضوي، ولذا أدت تاريخيًا الدور المحورى فى حفظ الدين وصيانة السلم المدنى فى وقت الاضطراب السياسى وانهيار الدولة. وما نلاحظه راهنًا هو تآكل الجماعة وعجزها فى جل الساحات الإسلامية عن أداء الحد الأدنى من دورها الإدماجي، فى الوقت الذى فشلت فيه الدولة الوطنية الحديثة فى كثير من البلدان فى تعويض الجماعة واستبطان رمزيتها السياسية قبل أن تختفى فى العديد من الحالات، وتترك المجال مفتوحًا للفوضى والحرب الأهلية. - المؤسسة الدينية التى لم تأخذ فى التقليد السُّنى شكل بنية سلطوية ضاغطة، بل نبعت من الجماعة وترجمت هويتها السردية الخاصة، وأدت بفاعلية أدوارها التعبدية والاجتماعية (التدريس والفتوى والقضاء وإقامة الشعائر). ومن الواضح اليوم أن هذه المؤسسة أصبحت فى غالب الأحيان هشة ضعيفة عاجزة عن أداء وظائفها الدينية والمجتمعية، ومن هنا خروج الجماعات المتطرفة والعنيفة عن ضوابط التحكم والتوجيه التى كانت بيد الفقيه الكلاسيكى الذى تنافسه حاليًا روابط واتحادات إيديولوجية تنزع إلى تشكيل سلطة علمية مضادة. قبل أربع سنوات دعا العلامة الشيخ عبدالله بن بيه من أبوظبى إلى مشروع جديد للسلم الأهلى فى المجتمعات المسلمة، يقوم على مرتكزات ثلاثة، هي: إعادة بناء وتفعيل المؤسسة الدينية، وتوطيد البناء السياسى للدولة، ومصالحة المسلمين مع العالم. وقد أثبتت الأحداث الفظيعة الأخيرة الحاجة الملحة والضرورية إلى هذا المشروع لانتشال الإسلام السُّني.