بعد أن اقتحم مصطلح "العَولَمة" مُعجم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على مدى العقدَين الأخيرَيْن، فإنّ كِتاب التحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة"، الصادر بترجمته العربية عن مؤسّسة الفكر العربي ضمن سلسلة "حضارة واحدة"، يشكِّل مرجعًا مهمًّا للباحثين في هذه العلوم، نظرًا لقيمته المعرفيّة العالية، ولاسيّما أنّ فصوله العشرين كَتَبها نُخبةٌ من أهل الاختصاص في عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة، فضلًا عن نُخبة من المؤرّخين والجغرافيّين، من فرنسيّين وأجانب، هُم في الواقع من بين الأكثر شهرة في مجال تخصّصهم. أشرف على الكتاب الباحثان الفرنسيّان ألان كاييه وستيفان دوفوا، ونقله إلى العربيّة الدكتور جان جبّور. وتوزّعت فصول الكتاب على أربعة أجزاء حملت على التوالي العناوين التالية: "تحوّلات تخصّصيّة"، "في بعض تحوّلات الأشياء"، " نظريّات العَولَمة بين المثال والواقع"،" العلوم الاجتماعيّة: إعادة تأسيس، إعادة تفكير، إعادة تنظيم؟"، فضلًا عن المقدّمة التي حملت عنوان "اللحظة العَولَميّة للعلوم الاجتماعية"، والتي كتبها الأستاذان الفرنسيّان المُشرفان، والخاتمة التي جاءت بعنوان "الأثر الميتا تخصّصيّ للتحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة". تُظهِر الدراسات حول الدولة والعَولَمة ثلاثة مواقف أساسيّة: أولًا؛ أنّ الدولة هي ضحيّة العَولَمة وأهمّيتها آخذة في التقلّص؛ ثانيًا؛ أنّ التغيّرات ضئيلة، وأنّ الدولة بشكل عامّ تستمرّ في القيام بما كانت تقوم به دائمًا؛ ثالثًا- وهذا تنويعٌ للبند السابق- أنّ الدولة تتكيّف ويُمكنها أن تتحوّل فتُواجِه بفضل هذا التكيّف التراجعَ وتبقى لاعبًا أساسيًّا. وفي هذا الإطار، ثمّة دراسات مهمّة تدور حول هذه المواقف الثلاثة، إذ تبقى الدولُ بالنسبة إلى بعض الباحثين اللّاعِبَ الرئيس، بصرف النَّظر عن تغيّرات السياق؛ وبالنسبة إلى البعض الآخر، ثمّة اليوم لاعبون أساسيّون آخرون حتّى لو حافَظتْ الدول على أهمّيتها، ذلك أنّ العَولَمة غيّرت بعض الخصائص المهمّة للدول وللنظام المُشترَك بين الدول. وعلى الرّغم من التباينات بين هذه الدراسات، فإنّها تنحو جميعها لتبنّي الفرضيّة القائلة إنّ الوطنيّ والعَولَميّ يقومان على عمليّة الإقصاء المُتبادَل. وعليه، فإنّ دراسات الكِتاب وبحوثه تلحظ المسائل التالية: هل الدول إلى تراجُع، هل هي بالقوّة نفسها التي كانت عليها في السابق، أم أنّها تغيّرت عبر التكيّف مع الأوضاع الجديدة من دون أن تخسر من سلطتها؟ وعلى خطٍّ موازٍ، يَطرح الكِتاب علاقة العَولمة بالعلوم الاجتماعيّة؛ ذلك أنّ زمن العَولَمة الرّاهن، وبصورة بالِغة الجدّية، أعاد النّظر بالأُسس التاريخيّة والمعرفيّة والتنظيميّة التي بُني عليها نظام العلوم الاجتماعيّة، ولاسيّما في ظلّ التعدّدية الكَونيّة العِلميّة، وما يرافقها من تحوّلات في النّظام العالَميّ للعلوم الاجتماعيّة. لذا، وفي مقدّمتهما التي جاءت بعنوان "اللّحظة العَولَميّة للعلوم الاجتماعيّة"، يشرح المُشرفان على الكِتاب ألان كاييه وستيفان دوفوا الأمر ويقولان: " إنّنا نشعر أو نستشعر جميعًا أنّ نطاق العالَم ووتيرته قد تغيّرا بشكلٍ أساسيّ. لم يعُد باستطاعتنا الاستمرار في وصفه، وتحليله، وتقدير الإمكانات التي يقدّمها من دون أن نُجري تعديلًا على الأقلّ بالمدى الذي بلغته العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة التي تهيكَلت وتشكَّلت في إطار الدول القوميّة ومن منظورها. ليس لأنّ هذه الدول قد أصبحت من الماضي، وإنّما لأنّه يجب وضعها من الآن فصاعدًا في سياقٍ مكانيّ وزمانيّ أكثر اتساعًا، وأكثر ثراءً، وأكثر تعقيدًا. ليس المطلوب بالتأكيد الانتقال من العلوم الاجتماعيّة الوطنيّة والمجتمعيّة إلى علوم اجتماعيّة تكون بشكل نهائي عولميّة، وإنّما بالحري التمكّن من إدراك هذا الزمن العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة الذي نعيشه من أجل التفكير بنقاط التواؤم القائمة بين هاتَيْن الصيغتَيْن التاريخيّتَيْن، وكذلك بأشكال إعادة الصياغة، وإعادة تفسير التقليد القائم، والفرضيّات الجديدة التي يقود إليها هذا النوع من العمل". والكتاب عبارة عن مجموعة قراءات علميّة في التحوّل العَولَمي، ويحمل بين دفّتيه أسئلة جديدة واقتراحات ومُقاربات فذّة حول أُسس جديدة للعلوم الاجتماعيّة، وذهب بعضها إلى تصوّر ما يُمكن أن يفضي إليه ذلك من بروز جماعةٍ علميّةٍ، غير مُهيمِنة حاليًّا في العلوم الاجتماعيّة، وذلك من خلال نموذجٍ منهجيّ جديد، هو التعدّدية الكونيّة العِلميّة.