ولعل الفضيلة العصرية -فضيلة القرن العشرين- التى تحسب من الأخبار الصادقة ولا تحسب من الشائعات المزجاة أنه يعرض مسائل الحياة للبحث والتقرير، ويجمع الأشتات المتفرقات من معلومات الأقدمين ليجرى عليها حكم العقل والعلم فى نسق جديد. وعلى هذا النسق، يتناول الباحثون العصريون أنواع الصيام ويقسمونها إلى أقسامها على حسب أغراضها العامة أو الخاصة من قديم العصور إلى العصر الحديث، وقد أحسنوا تقسيمها حقا حين حصروها فى هذه الأقسام الخمسة التى تحيط بها ولا تستثنى نوعًا منها على ما نعلم، وهى: صيام التطهير الذى يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات من شهوات النفوس أو الأجسام. وصيام العطف: ومنه صيام الحداد فى أوقات الحزن أو المحنة ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين ولا يبيح لنفسه ما حرموه بفقدان الحياة أو فقدان النعمة والحرية. وصيام التكفير عن الخطايا والذنوب تطوعا من الصائم بعقاب نفسه عن الذنب الذى يندم على وقوعه، ويعتزم التوبة منه والتماس العذر فيه. وصيام الاحتجاج والتنبيه، وهو صيام المظلومين وأصحاب القضايا العامة التى لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف. وصيام الرياضة النفسية أو البدنية التى تمكن الصائم من السيطرة -بإرادته- على وظائف جسمه، تصحيحًا لعزيمته أو طلبًا للنشاط واعتدال الأعضاء. وكل هذه الأنواع الصومية تستدعى الكف عن الطعام وشهوات الجسد تارة بالامتناع عن الطعام كله بعض الوقت، وتارة بالامتناع عن بعضه فى جميع الأوقات، وتارة بالإقلال من جميع مقاديره والمباعدة بين واجباته أو بالقدرة على مخالفة العادات المتبعة فى تقديره، وتوقيته على جميع الأحوال. وشريطته العامة التى تلاحظ فى جميع أنواعه هى تحكيم الإرادة فى شهوات النفس والجسد أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد. والمتواتر من أقوال الباحثين عن عادات الأجناس البشرية أن الصيام بجميع أنواعه قديم فى أمم العالمين: القديم والجديد. ففى حضارات أمريكا الوسطى آثار تدل على قدم الصيام بين شعائر العبادة التى دان بها سكانها الأصلاء قبل ميلاد السيد المسيح، وقد اشتهر الصيام البرهمى والبوذى منذ أقدم العصور التاريخية مع تحريم أكل اللحوم كما هو معلوم، واشتهر مثله صيام البابليين والأشوريين على نحو قريب من الصيام الذى تعلمه منهم اليهود أيام السبى متابعة للشعائر الدينية التى جاء بها الرسل الأسبقون فيما بين النهرين، وأوله نوح -عليه السلام- على القول المشهور. وكان الصيام معروفًا عند المجوس الزردشتيين، ولكنهم -أو طائفة منهم- حرموه أخيرًا لثورتهم على العبادات البرهمية والعبادات الأشورية بعد اصطدام العقائد الجديدة بالعقائد الموروثة السابقة عليها. ولا يندر الصيام فى أمة من الأمم الكبيرة غير الأمم التيوتونية من أبناء الشمال، فإنه قليل فى تاريخها القديم، وإن لم يكن مهملًا كل الإهمال، ولعلهم أقلوا منه لصعوبة الاستغناء عن الطعام زمنًا طويلًا فى البرد الشديد أو لصعوبة توقيت المواعيد، حيث تطول الفترة بين شروق الشمس وغروبها، فلا ينتظم التوفيق بينهما وبين وجبات الطعام.