يتابع «يفجينى بريماكوف» الكشف عن الكواليس السرية للأحداث الساخنة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بقوله، كانت المهمة الأساسية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية هى السيطرة على المقدرات النفطية فى المنطقة، إلا أن المواجهة مع الاتحاد السوفيتى أضافت لهذا مهمة أخرى وهى إقامة رأس جسر عسكرى بالقرب من الحدود السوفيتية. حينها كان من الصعب وضع هذين الهدفين على مسار واحد، ولذلك راهنت الولاياتالمتحدة على تقوية العلاقات مع الأنظمة الملكية العربية، حيث توجد مكامن النفط الرئيسية على أراضيها، وهذا الرهان هو الذى حدد سلفا ضرورة المناورة فى مسألة إنشاء أحلاف عسكرية فى الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال رفضت الولاياتالمتحدة المشاركة فى حلف بغداد، على الرغم من أنها لم تدعمه فقط، بل أنشأت هذا الحلف بنفسها بأيدى لندن، تحفظ الولاياتالمتحدة ناجم عن علاقة المملكة العربية السعودية السلبية بحلف بغداد بسبب مشاركة العراق فيه، فالعلاقة بين السعوديين والهاشميين كانت ملبدة بالغيوم. محاولات الولاياتالمتحدة بناء جسور مع مصر الناصرية جعلها تحجم عن وجود عسكرى مباشر لها فى الشرق الأوسط، لكن مع نهاية عام 1956 أصبح من الواضح أن هذا لن يتحقق. أما أنه ولأسباب كثيرة قد فشل العدوان الثلاثى عام 1956، فقد أدى هذا بلا شك لنمو التعاطف مع مصر والقومية العربية ليس فقط فى الدول العربية ولكن ما يسمى بالعالم الثالث ككل، وتعاظم تأثير مصر فى تثوير العالم العربى فى هذه الظروف، وفى يناير 1957 تم الإعلان عما عرف بمبدأ أيزنهاور. ونظرًا لانتهاء الغزل بين الولاياتالمتحدة ونظام ناصر القومى، فإن اهتمام السياسة الأمريكية الأكبر أصبح متجهًا لإسرائيل. وازدادت أهمية إسرائيل ليس فقط لأنها أصبحت إحدى دعائم تنفيذ التوجهات الأمريكية فى الشرق الوسط. ففى وقت الحرب الباردة أصبحت إسرائيل حليفًا أمريكيًا مباشرًا فى الصراع مع الاتحاد السوفيتى، ودور إسرائيل كان فريدًا من نوعه فى هذا الخصوص وهو لم يقتصر على النشاط الدعائى، بل امتد أيضًا حتى إلى الجانب العسكرى. فالحروب مع العرب كانت مهمة لمصممى الأسلحة الأمريكيين حيث كانت تجرى تجربة الأسلحة الأمريكية الحديثة على أرض المعارك، وبعد هذه الحروب كانت إسرائيل ترسل المعدات العسكرية السوفيتية التى كانت تستولى عليها إلى الولاياتالمتحدة، وليس فقط بعد الحروب مباشرة، فعلى سبيل المثال قامت المخابرات الإسرائيلية بتجنيد طيار عراقى، قام بقيادة طائرة ميج -21 وهبط بها فى إسرائيل مقابل مليون دولار وتوفير مكان لجوء له ولأسرته، ثم أرسلت الطائرات إلى الولاياتالمتحدة، وأبلغ رئيس الموساد عاميت نظيره الأمريكى ريتشارد هيلمس، أن الأمريكيين يستطيعون الآن تكوين تصور واقعى عن الإمكانيات القتالية لطائرات الميج، والعمل على تطوير مقاتلاتهم، حالة مشابهة حدثت مع الطائرة ميج -23، التى قام طيار سورى باختطافها عام 1989 بعد أن جنده الموساد. لعب كذلك الرأى العام فى الولاياتالمتحدة الذى ساهم فى تكوينه بدرجة كبيرة اللوبى الإسرائيلى، خاصة فى الكونجرس ووسائل الإعلام دورًا لا يمكن إنكاره فى إنتاج التوجهات الأمريكية فى الشرق الأوسط، وعن طبيعة دور إسرائيل الذى يروج له فى الولاياتالمتحدة تشهد خطبة «إ. كينان» أحد خبراء السياسة الأمريكيين فى أثناء جلسة استماع فى الكونجرس جرت عام 1970، قبل أحداث ما عرف ب «أيلول الأسود» فى الأردن، عبر عن رأى عدد كبير من المشاركين فى جلسة الاستماع وقال «إنه لولا وجود إسرائيل لابتُلعت مصر أو سورياوالأردن، ولكان لبنان فى قائمة الانتظار ليبتلع ونفس المصير تنبأ به لليمن الشمالى والعربية السعودية وإمارات الخليج، وذهب كينان لأبعد من ذلك قال لو لم تكن إسرائيل موجودة لملأ الروس هذا الفراغ الذى تركه الإنجليز فى عدن بأسرع ما يمكن». منذ لحظة الإعلان عن مبدأ أيزنهاور بدأت مرحلة الهجوم السياسى الأمريكى الموجه لإقامة معسكر معادٍ لناصر فى العالم العربى. ففى الأردن وقبل ثلاثة أشهر من إعلان مبدأ أيزنهاور فازت القوى الموالية لناصر فى الانتخابات وأصبح سليمان النابلسى رئيسًا للوزراء، وبمساعدة المخابرات الأمريكية جرى تنظيم عملية إسقاطه، وسارعت الولاياتالمتحدة للإعلان عن أنها قررت تقديم مبلغ 50 مليون دولار تدفع سنويًا للأردن. إسقاط النابلسى ترافق مع الضغط على ناصر بتهديدات إسرائيلية باحتلال الضفة الغربية لنهر الأردن إذا حاول التدخل فى الأحداث الأردنية، والمملكة العربية السعودية أرسلت عدة آلاف من جنودها إلى الأردن، على الرغم من أنه لا يوجد أساس لاعتبار أن ناصر فى أثناء وجود النابلسى فى منصب رئيس الوزراء حاول «إخضاع» النظام الأردنى، على الرغم من أنه كان لديه ما يكفى من الموالين له فى هذا البلد.