تجاوزت عقارب الساعة الثانية صباحا وهى لا تزال تقرأ آيات القرآن من المصحف ذى الخط الكبير الذى يمكنها من الرؤية بوضوح، ورغم إجرائها جراحتى زرع عدسة وإزالة مياه من عينها فإنها تفضل بذل نور عينيها فى الكلام مع الله. وفجأة وفى أقل من لحظة سقطت على الأرض، واستقر أصبعها السبابة فى عينها اليسرى، مغرقا وجهها بالدماء المختلطة بماء العين التى انفجرت، فحمدت الله مرحبة راضية بمشيئته. فى دقائق معدودة كنت أنا وشقيقى الأصغر فى أقرب مستشفى لمحل إقامتنا بمنطقة وسط البلد «حاملين أمنا وجدتنا للأب الحاجة مريم غارقة فى دمائها».. داخل أروقة مستشفى المنيرة العام، نصحنا الأطباء باصطحابها إلى قصر العينى، نظرا لعدم وجود أطباء رمد فى المستشفى، ولعدم وجود إمكانيات لمواجهة الحالة التى قد تكون خطيرة «كده بالنظر» بدون فحص وكشف وعدم إعارة الحادث أدنى اهتمام. توجهنا فى لمح البصر إلى مبنى الاستقبال الجديد بقصر العينى القديم بالمنيل، استقبلنا طبيب فى مقتبل العمر، سألته الحاجة مريم «اسمك إيه يابنى»، فأجاب: «مينا يا أمى».. فربتت على يديه برفق، وقالت لمينا: «فى الجنة شهداء البطرسية فى الجنة بنعزيك يابنى». سحب مينا الكرسى المتحرك الذى سلمه لنا أمن قصر العينى مقابل بطاقة شخصية وإكرامية 50 جنيها، فالحالة لا تستطيع السير على قدميها، فقد تجاوزت عامها الخامس والثمانين ببضع سنوات.. إلى حجرة الكشف، وبالفحص تبين حدوث انفجار بالعين ونزيف داخلى، والحالة لا تحتمل انتظارا، ولا توجد اختيارات للعلاج غير التدخل الطبى بجراحة دقيقة وخطيرة، فالحاجة مريم تعانى من أمراض القلب والسكر والضغط، والتخدير يعرض حياتها للخطر الكامل. بعد انتهاء الدكتور مينا من الكشف، تسلمنا من ريسبشن قصر العينى روشتة مدون بها خمسة عشر نوعا من الدواء لزوم العملية، وطلبت الإدارة جلب الأدوية من الصيدليات لعدم توافرها فى كبرى المستشفيات التعليمية. أخذت الروشتة، وتوجهت إلى كبرى الصيدليات لأبحث عن الدواء، بينما ذهب شقيقى للتبرع بالدم شرط دخول الحالة المستشفى، شرط وليس اختيارا، قالها لنا أفراد الأمن إذا لم تتبرعوا بالدم خدوها وامشوا.. تبرع أخى بالدم الذى يملكه، وفشلت أنا فى الحصول على الدواء الذى لا أملكه ولا تملكه أكبر سلاسل الصيدليات فى مصر، قالها لى جميع الصيادلة وأنا أبكى لهم للحصول على مستلزمات العملية بأى ثمن، «مفيش» صدقينا، مفيش، لو قعدتى ساعة معانا هتعرفى إن فى 1600 نوع دواء ناقص، والحالات مقطعة قلبنا، والدكاترة بيكتبوه برضه، وهما عارفين إن الدواء ناقص، ولا البديل كمان موجود. لم يتركنا «مينا» الطبيب الشاب، وكأنه أراد أن يحيا شهداء البطرسية فى شخص «مريم»، فأجرى اتصالاته بشباب دفعته من الأطباء فى جميع مستشفيات العاصمة، لنجمع الدواء «فرط» حتى ساعدنا الله وأجرينا الجراحة بمساعدة ذاتية من شباب الأطباء الذين أنقذوها وأنقذونا من العجز والفشل.