لا بد هنا من سوق إشارات وملحوظات حول الكتب التي كان لها الإسهام الرئيسى في تأسيس خطاب الأصولية الإسلامية المعاصرة، وفى أن يتخذ الكتاب الإسلامى عبرها وبواسطتها صيغته النهائية، ابتداءً من منتصف سبعينيات القرن الماضى. أقدم تلك الكتب نشرًا، كتاب محمد أسد: «الإسلام على مفترق الطرق»، فلقد نشر باللغة الإنجليزية عام 1934 في دلهى ولاهور من قبل دار عرفات للنشر الهندية، وترجمه عمر فروخ إلى العربية في عام 1946، وكتب المودودى التي نشرت ما بين ثلاثينيات القرن الماضى وأربعينياته، يلى كتاب محمد أسد وكتب المودودى في تاريخ النشر، كتاب سيد قطب: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي نشر عام 1949، وكتاب الندوى «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» الذي نشر عام 1950، وكان هو أول مؤلفاته، أما بقية مؤلفاته المذكورة فهى عبارة عن مقالات نشرت في كتيبات في أوائل الخمسينيات. كتاب محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» الذي أرخ فيه لهذه الاتجاهات من الثورة العرابية إلى قيام الحرب العالمية الأولى، نشره عام 1954، وأتبعه بجزء ثان أرخ لها فيه من قيام الحرب العالمية الأولى إلى قيام الجامعة العربية، نشره في عام 1956، الجزء الثانى كتبه أو صاغه الصياغة النهائية بعد «أو في أثناء» تحوله إلى سلفية محافظة. في فصله الثالث «قديم وجديد» تتبع تسرب بعض العادات والتقاليد الغربية في ميدان الأخلاق والملبس والمأكل إلى المجتمع المصرى مع قيام الحرب العالمية الأولى، ضمن رؤية تنتصر للقديم وتدين الجديد، ونظر إلى اهتمام الغربيين ومستشرقيهم بالاتجاهات الإسلامية، وذلك من خلال عرضه للكتاب الذي حرره هاملتون جيب «إلى أين يتجه الإسلام؟»، نظرة ارتياب وشك، واعتبر طه حسين وسلامة موسى- وهذا صحيح- هما أكثر دعاة التجديد تطرفًا، وتوجه إلى كتاب الأول «مستقبل الثقافة في مصر» بالنقد، وكان هذا النقد إعلانا عن تحوله عن أستاذه وصدحا بمفارقته له، ونقد كتاب الأخير «اليوم والغد» ووضع هذين الكتابين في مقابل كتاب مصطفى صادق الرافعى «تحت راية القرآن» الذي هاجم فيه بقوة طه حسين مثمنًا هذا الكتاب. وعرض لتطور السفور بعد دعوة قاسم أمين له، ولمشاركة المرأة في القضايا السياسية، ونشأة الجمعيات النسائية، وبدء الاختلاط بين الجنسين والزواج بأجنبيات مع انتقاد لكل هذه الظواهر الجديدة. وفى فصل الكتاب الرابع «دعوات هدامة»، كان من بين ما تعرض له بالنقد فكرة المواءمة ما بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية التي مثلها الشيخ محمد عبده، ووافق شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، مصطفى صبرى في رفضه لها، في الطبعة الثانية من الكتاب الذي نشره بجزءيه معا عام 1962، أدخل على الفصل الأخير من الجزء الأول «نزعات إصلاحية» بعض التعديل، لأنه- كما يرى- يتناقض مع ما جاء في الفصلين الثالث والرابع من الجزء الأول الذي كتبه بعد أو في أثناء تحوله، «ولا سيما ما يتعلق منه، بمحمد عبده وحركته». راجع مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب. والحق أنه لا يتناقض، فهو في الفصل المشار إليه في الطبعة الأولى الذي كتبه أيام علمانيته، كان قد قدم عرضًا محايدًا يخلو من الأحكام التقييمية في أي اتجاه. يقول في مقدمة الطبعة الثانية: «اجتمعت لى منه أي ما يتعلق بالشيخ محمد عبده مادة صالحة لا يتسع لها هذا الكتاب، أرجو أن يتاح لى نشرها فيما بعد، وهى تكشف عن جوانب أغفلها الذين كتبوا عنه وأرخوا له». وسيدخر هذه المادة إلى أن يصوغها في محاضرة ألقاها عام 1966 في الكويت، وكانت المحاضرة عن الأفغانى ومحمد عبده، وسيقوم بنشرها في كتابه «الإسلام والحضارة الغربية»، الذي نشر في طبعته الأولى عام 1969 ببيروت. بدأ اهتمام الإخوان المسلمين بكتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» بعد طبعته الثانية، وكان هذا الكتاب وكتاب البهى «الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى»، من ضمن كتب اقترح سيد قطب على أفراد تنظيم 1965 الذي كان يقوده قراءتها وتدارسها، وأدرجها في خانة ما اسماه ب«الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضر الإسلام ووسائلهم»، وذلك كما جاء في مذكرات على عشماوى، أحد أفراد هذا التنظيم. ومما ينبغى توضيحه عن كتابى محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» و«الإسلام والحضارة الغربية» أنهما كتابان في التاريخ السياسي والاجتماعى والثقافى وليسا كتابين في التنظير الإسلامى المعاصر، وكتابه الثالث «حصوننا مهددة من داخلها»، كتاب يجمع إلى السجالية الإسلامية الراديكالية، التأريخ الدقيق الموثق، وأرى أن الخطأ ليس هو خطأ محمد محمد حسين فكتبه هذه مفيدة، وتحمل وجهة نظر غير سائدة في وقتها، وتتضمن بحوثًا أصلية وتنقيبات دؤوبة معتبرة، وإنما الخطأ خطأ التيار الذي استقبل ما فيها بتسليم مطلق، ذلك أنه تيار انفعالى يفيض بالعاطفة الدينية السطحية والمتشنجة، ويفتقر إلى القدرة على المناقشة العلمية والمنهجية الصرفية، ويفتقد توخى الموضوعية والعدل والإنصاف. يمكن تسجيل ملاحظة بخصوص تلك الكتب المذكورة، وهى أن مؤلفيها يتوزعون ما بين تيارين «تيار متحول»، ويمثله محمد أسد الذي تحول عن اليهودية إلى اعتناق الإسلام، وسيد قطب المتحول من التعلق بمقاييس النقد الأدبى الغربى والتعلق بمشيخة عباس محمود العقاد الأدبية والنقدية والشعرية حد الدروشة، والتعصب له إلى درجة التنفير من معبوده إلى إسلامية أصولية انفعالية وحانقة، ومحمد محمد حسين الذي كان علمانيا صرفًا، فتحول إلى عروبة إسلامية متشددة وإلى محافظة متزمتة، ومحمد البهى الذي كان في فترة من حياته السرية شيوعيًا، ثم مال إلى اتجاه غربى سياسي معاد للشيوعية واليسار، ثم هجره إلى إسلامية أصولية، و«تيار إسلامى قح» أي كان أصحابه أصوليين منذ نعومة تفكيرهم، ويمثله المودودى والندوى ومحمد المبارك ومحمد قطب الذي يختلف عنهم في بدايته قليلًا، فهو في مؤلفاته الأولى مال إلى شىء من الإسلامية الدفاعية، ثم تحول عنها إلى الإسلامية الهجومية. لا ينتمى محمد محمد حسين ومحمد البهى إلى حركة الإخوان بعد تحولهما، وكانا مجافيين لها، ويمكن عد محمد محمد حسين بعد تحوله استمرارًا لمدرسة أنصار القديم في الأدب واللغة والثقافة واستئنافًا للمدرسة الدينية التقليدية المناهضة للجديد وللتحديث، لكن بصيغة أكاديمية محترفة، وهو مع مصطفى الشكعة، صاحب كتاب «إسلام بلا مذاهب» وآخرين، يمثلون الاتجاه الإسلامى غير الإخوانى في عهد جمال عبدالناصر، والمفارقة أن محمد محمد حسين كان ناصريًا وسلفيًا في آن! أما محمد البهى فحين ألف كتابه في عام 1958، كان يتولى منصبًا كبيرًا في عهد جمال عبدالناصر، وهذا المنصب هو مدير عام الثقافة الإسلامية بإدارة الأزهر، وتولى في مطلع الستينيات منصب مدير جامعة الأزهر مرتين، وما بين الأولى والثانية تولى منصب وزير الأوقاف وشئون الأزهر، وبسبب برلنتى عبدالحميد وعبدالحكيم عامر وتقرير استخباراتى كتبه محمود أمين العالم، واجه في منتصف الستينيات محنة استمرت إلى وفاة جمال عبدالناصر. «راجع مقالى عنه: أزاهرة شيوعيون... هل كان محمد البهى شيوعيا؟ المنشور في مجلة المجلة، العدد 1584 يونيو، 2013». نقلا ًعن «عكاظ» السعودية