إذا أخضعنا أداء الرئيس عبدالفتاح السيسى للتقييم السياسي المنطقى، فإنه يعمل ضد مصلحته الشخصية، يعاند مستقبله، ويسحب من شعبيته.. لكن إذا تعاملنا معه بمنطق وطنى بحت، فلا بد أن نشير إليه بوصفه واحدًا من منقذى هذا الوطن في لحظة مأزومة ومتأزمة. ليس في كلامى تملق ولا نفاق، فما أغنانى عن ذلك، ولن أتصدق على وطنى بما فعلت، سواء في عصر مبارك، حيث وقفت أمام كل محاولات احتواء الإخوان المسلمين، وفضحت صفقات النظام معهم، وحذرت- علنا كتابة وحديثا في برامج تليفزيونية موثقة- من الخطر الكبير الذي تمثله هذه الجماعة على مستقبل مصر، وهو ما تحقق عندما اغتصبت السلطة على ظهور من ادعوا الفهم، رغم أنهم ليسوا أكثر من أشباه سياسيين. عندما قامت ثورة يناير لم أقف في طريقها، إذ كيف أفعل ذلك، وأنا كنت معارضًا للنظام الذي كانت ضده، لكننى أدركت منذ لحظاتها الأولى أنها ليست خالصة لملايين البسطاء الذين شاركوا فيها من أجل مستقبل أفضل، فحذرت من تجار الثورات، الذين يستعدون للانقضاض عليها، كان يمكننى أن أصمت، أردد ما يقوله غلمان مغرر بهم، تم شراؤهم في حجرات مغلقة، لكنى أبيْتُ ذلك، ففضحت عمالتهم وخططهم، وقد كانت الأيام كريمة معى، إذ أكدَتْ كل ما ذهبتُ إليه، وتكشَّفَ للشعب المصرى أن من ارتدوا ثياب الثوار لم يكونوا إلا مجموعة من اللصوص والنصابين والراقصين على جثة الوطن. وعندما جاء الإخوان- في يوم أسود- لحكم مصر، أعلنتُ منذ اللحظة الأولى أننى ضد هذا النظام، ولعل المهتمين بتوثيق التاريخ وتسجيله كما حدث، يذكرون أننى كنت أول من ذهب إلى مكتب النائب العام في ديسمبر 2012، حاملا بين يدى أوراقا ومستندات تثبت عمالة وجاسوسية الرئيس الإخواني محمد مرسي. كنت أعرف خسة ودناءة جماعة الإخوان الإرهابية، وأدرك قدرتها على الانتقام من خصومها، بداية من التشويه المعنوى، ووصولا إلى التصفية الجسدية، لكننى لم أتراجع، وقفت في وجه مخططهم، ومن ميدان التحرير قلب الثورة المصرية، أعلنت في 17 يونيو 2013 أننا سنعيد محمد مرسي ورجاله إلى السجون التي خرجوا علينا منها. أقول هذا فقط لأؤكد للجميع أننا لا نقف الآن في صف الرئيس السيسى، طلبا لمنفعة ولا هروبا من عقاب، ولكن لأن الوطن يحتاج منا جميعا هذه الوقفة، لقد اخترنا الطريق الصعب ودفعنا ثمنه، رغم علمنا بمزايا الطريق السهل الذي يكثر سالكوه، بصرف النظر عما إذا كانت نهايته في صالح الوطن أو خصما منه. لماذا أقول هذا الآن؟ خلال الأيام الماضية كان هناك ما يشبه الحملة المنظمة للشكوى من سوء الأحوال، وهو ما لا ننكره ولا نتعالى عليه، ولا نتهم بالمناسبة من يشكون من الظروف الاقتصادية بشيء ليس فيهم، فليس معقولا أن نتهم كل من يشكو أو يعبر عن أزمته، بسبب ارتفاع الأسعار، أنه خائن أو عميل أو ممول أو ينتمى إلى «الإرهاربية». في الوقت نفسه الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك من يستغل شكوى الناس العادية والطبيعية والمنطقية، ليحرج النظام ويواجهه ويؤلب الناس عليه، وهؤلاء لهم مصلحة مباشرة في ألا تستقر مصر ولا يهدأ لها حال. هل لا يفهم هؤلاء حقيقة الأوضاع التي نعيش في ظلالها؟ بالطبع يعرفون، لكنهم يتجاهلونها، لأنهم يسعون لتحقيق أهدافهم، فلا تزال لديهم أحلام وآمال في العودة إلى الحكم مرة أخرى، وكعادتهم التي لن يشتروها، فإنهم يستغلون الظرف الاقتصادى الخانق ليشعلوا النار في كل شيء. حديثى ليس مع هؤلاء، ولكن مع أهلنا الطيبين، الذين ربما لا يدرون أن هناك من يتربص بهم، يرغب في استخدامهم، ثم بعد ذلك سيدوس عليهم وبمنتهى القسوة، لأن ثأر الجماعة الإرهابية ليس مع الجيش والشرطة فقط، ولكن مع المصريين جميعا. وأنا في رحلة خارجية ما بين عمل وعلاج، مر أمام عينى فيديو، لا أشكك في نيات من صنعوه، ولكنى أتحفظ على الهدف منه. الفيديو يسخر فيه نشطاء التواصل الاجتماعى مما قاله سائق التوك توك الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وضعوا له عنوانا مربكا وهو «ريح دماغك يا ريس».. وفيه يقول من صنعه موجها كلامه إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى: «وقّف مشاريع الطرق ومحطات الكهرباء، وقّف آبار الغاز وأنفاق قناة السويس، والمليون وحدة سكنية، والغى علاج فيروس سى على نفقة الدولة، والغى نقاط الخبز، والغى استصلاح المليون فدان (هي في الحقيقة مليون ونصف المليون فدان)، واردم صحارى سربيوم، وبلاها تنمية سيناء، وأوقف مشروع المزارع السمكية، والغى خط المترو الرابع، وبلاش تعاقد على قطارات جديدة، ويا ريت بلاش مدن الإسماعيلية الجديدة والعلمين الجديدة، وهضبة الجلالة، ولا مدينة الأثاث بدمياط، ولا مدينة الجلود بالروبيكى، ولا المحطة النووية، ويا ريس الغى مشروع موانئ شرق التفريعة، والمثلث الذهبى، والمنطقة الصناعية الروسية والصينية، والغى مساكن العشوائيات ورجعهم للعشش تانى، ورجع الغارمات السجون، ووقف تطوير مراكز الشباب، ريح دماغك يا ريس، وبلاش سلاح للجيش، وطاطى شوية لأمريكا، وسلم سوريا للإرهابيين، وبلاش عضوية مجلس الأمن، وهات بالفلوس دى كلها رز وزيت وسكر وسجاير وقمح يكفوا السنتين اللى فاضلين، ساعتها هتلاقى الشعب بيرقصلك وسواق التوك توك مبسوط قوى». حرصت على أن أثبت هنا ما جاء في هذا الفيديو، لأن له أكثر من دلالة: الأولى أن هناك إنجازات كثيرة تحققت على الأرض، كلنا يعرف ذلك، شهدته بنفسه، وهى إنجازات تترجمها مشروعات لن تمنحنا الآن، ولكن الأجيال القادمة ستنعم بها، لكن هناك من يحب التشكيك في هذه المشروعات والإنجازات، عن عمد أحيانا وعن جهل في أحيان كثيرة. الثانية أن هناك طريقا سهلا جدا كان يمكن للرئيس عبدالفتاح السيسى أن يسلكه، يوفر للشعب سلعا وخدمات بكل ما يحصل عليه، دون أن يوجه جهده الحقيقى إلى استثمارات حقيقية، يعيش من يحكمهم الآن، ثم ليذهب المستقبل بعد ذلك إلى الجحيم. أعرف أن الرئيس لن يستجيب إلى هذه الدعوات، لأن قدره أن ينقذ وطنه، وأعرف أيضا أنه قرر من البداية أن يضحى بكل شىء من أجل أن يبقى هذا الوطن لنا ولأبنائنا وأحفادنا من بعدنا. في حديثه إلى الشعب من الفرافرة وهو يدشن مشروع المليون ونصف المليون فدان، قال السيسى كلمة واضحة ومحددة وبليغة: «أنا ماضيعتكومش قبل كده.. علشان أضيعكم تانى». منذ اللحظة الأولى وهو يختار الطريق الصعب، عندما قرر أن يساند الشعب في 30 يونيو، كان يعرف أنه لا يخاطر بمستقبله فقط، ولكن ربما بحياته نفسه، فلو لا قدر الله كانت هذه الثورة فشلت، لكان أول المتقدمين إلى المحاكمة التي لم يكن لينجو منها أبدا. وبعد أن أصبح رئيسا اختار أن يعمل من أجل المستقبل، كان يمكنه أن يختار الطريق السهل الذي يجعل منه قائدا تنافس شعبيته زعماء وقادة مروا من أبواب التاريخ الكبيرة، وكانت لديه شعبية جارفة، لكنه قرر أن ينقذ الموقف حتى لو تراجعت شعبيته، فهو لا يسعى لرضا الرأى العام السطحى، ولكن يعمل من أجل أن تسعد الأجيال القادمة، وهو ما جعله يعمل في المنطقة الحرجة، يأخذ قرارات اقتصادية صعبة، لم يكن غيره يجرؤ عليها، طلب من الشعب أن يتحمل، لأننا إن لم نتحمل الآن، فلن نستطيع أن نعبر إلى المستقبل. إننا أمام قائد حقيقى، نقدر فيه اختياره طريق المصاعب، ولهذا فنحن لا نقف خلفه فقط، ولكن ندعو الجميع لأن يتكاتفوا خلفه، إنهم لم يساوموا علينا، فلا يجب علينا أن نخذله، إننا لا نبحث عن مجد شخصى، لأننى لو كنت أريد ذلك، لوقفت في صف معارضة جوفاء أحصد من خلالها تصفيق جماهير كثيرة، لكننا نقف في صف واحد مع من يريد أن يبنى. هذا ليس مقالا عابرا، ولكنه بداية لحملة ندعو السيسى من خلالها أن يكمل طريقه.. اعتبروا هذه هي الرصاصة الأولى.. وسنواصل معكم السير في الطريق الصعب، لأنه الطريق الوحيد للنجاة.