إلى تحليل موقف «الدولة المدنية الحديثة» من الأسرة الدولية، قضاياها وقيمها الأساسية، تجذبنا زيارة الرئيس السيسى إلى نيويورك، للمشاركة فى الدورة الحادية والسبعين لاجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة التى تعقد تحت عنوان «قمة الأممالمتحدة المعنية باللاجئين والمهاجرين». والواقع أن نشاط الرئيس السيسى على الساحتين الإقليمية والدولية مشهود له بالقوة، الأمر الذى يشير إلى وجود قناعات حقيقية وجادة لدى الرئيس بأن مصر لا يمكنها بلوغ أهدافها وهى قصية عن محيطها، بهمومه وملفاته الشاقة، نافرة من مسئولياتها القومية والتاريخية، بدعاوى ثقل أعبائها. ومن هنا كانت مبادرة الرئيس لإعادة الحياة إلى القضية الفلسطينية برعاية مصرية. وعليه، لا يمكن فصل السياسة الخارجية لمصر عن جذورها فى الداخل، خاصة وقد شاع، عن حق، أن السياسة الخارجية إنما تصنع فى الداخل. غير أن الأمر على هذا النحو لا يشير إلى أن مسار الدولة المصرية على الساحتين الإقليمية والدولية، لا يأتيه باطل من خلفه أو من أمامه، ولو أن اعتقادًا كهذا يقع فى ضمير المسئولين عن سياستنا الخارجية، لكانت الدولة المصرية بعيدة، أكثر مما نعتقد، عن الانخراط فى مفهوم «الدولة المدنية الحديثة». بداية أشير إلى أن الأممالمتحدة منشغلة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، وتزعم الولاياتالمتحدةالأمريكية للنظام العالمى منفردة، بوضع أجندة أممية جديدة، بموجبها تستجمع مجمل القضايا الإنسانية الخاضعة لمتطلبات التنمية المستدامة؛ إذ باتت مجموعة من القضايا تمثل تحديًا مشتركًا أمام المسيرة الإنسانية. ومن هنا اعتلت أولويات العمل الدولى قضايا الهجرة غير المشروعة، والاتجار فى البشر والسلاح والمخدرات، وتغيرات المناخ والبيئة عمومًا، إلى جانب مشكلات حركة رؤوس الأموال والسلع، وما يرتبط بها من جرائم تهريب وغسيل الأموال. وعليه، فإن «الدولة المدنية الحديثة» باتت معنية بكل تلك القضايا الأممية، بل ومطالبة بالمشاركة فى وضع سياسات، محلية وإقليمية ودولية متجانسة ومتكاملة لكيفية مجابهتها؛ إذ بات المجتمع الدولى مسرحًا كبيرًا، لا تفصله عن مخاطرها حواجز، جغرافية كانت أو سياسية أو اقتصادية، ولا تستطيع دولة أيًا كانت مواجهة تبعاتها بمفردها. وهنا يتحقق مبدأ «الاعتماد المتبادل» كأحد المبادئ الأساسية الحاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة. على خلفية ما سبق، نرصد معًا إشكاليات، فكرية بالأساس، لطالما عانت منها الدولة المصرية، جراء ما تنتجه من تناقضات فى المواقف تثير الشكوك حول جدية التوجهات صوب صحيح مفهوم «الدولة المدنية الحديثة»، وما يمكن أن نتوقعه من قيم تحكم فكرها وسلوكها، فى الداخل والخارج على السواء. وعليه أقول: ارتفاع سقف نظرية المؤامرة بلغ حدودًا عليا غير مسبوقة، قطعًا تمثل عائقًا كبيرًا أمام تصاعد الطموحات المشروعة فى انخراط الدولة المصرية فى منظومة القيم العالمية باعتبارها قواعد مُعتبرة تم إقرارها فى العلاقات الدولية المعاصرة، عليها ترتكز «الدولة المدنية الحديثة»، ومنها تنطلق لتحقق رفاهية شعبها. أما إشاعة مفهوم «الدولة المدنية الحديثة» ونحن، فى الحال نفسه، ماضون فى تلقين الناس كيف أن مصر مستهدفة من جميع القوى الإقليمية والدولية!، ونرسخ فى الأذهان البسيطة كم باتت المؤامرات على مصر قاسمًا مشتركًا يجمع أطرافًا شتى ما كان لها أن تجتمع إلا على تدمير مصر!. والحال كذلك، لا ينسجم قطعًا والزعم، جهورى الصوت، بنجاح السياسة الخارجية المصرية، واستعادة مصر دورها الرائد فى المنطقة!. فواقع الأمر أن مصر بالفعل تلقى دعمًا متنوعًا وواضحًا من كثير من القوى الإقليمية والدولية، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وهو ملمح نجاح نحرم أنفسنا منه إذ نفضل الاختباء تحت نظرية المؤامرة المريحة من كل مراجعات جادة لازمة، أو إعادة بحث وفحص واجبة لكثير من محاور أداء الدولة المصرية. يشير إلى ذلك بوضوح الاعتراف، واسع النطاق، بالإرادة المصرية الحرة التى انطلقت فى الثلاثين من يونيو لتنزع عن حكم الإخوان شرعيته، وتلقى تطلعاتها أمانة ثقيلة على نظام جديد ينحاز بقوة إلى مبادئ وأهداف الثورة المصرية المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير، وهى القيم ذاتها التى تمسكت بها الملايين الثائرة فى الثلاثين من يونيو. ويتواصل الدعم الاقتصادى من الأشقاء فى الخليج، رغم المعاناة البالغة التى تضرب اقتصاداتها بسبب تدهور أسعار النفط، يواكب ذلك دعم من المؤسسات المالية الدولية ماثلًا فى حزمة من القروض والمساعدات لم يكن لها أن تمر لو أن مصر بالفعل محاصرة بالمؤامرات من كل جانب، كما يحلو للبعض من قصار ومنعدمى، الرؤى السياسية. ذلك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، صاحبة النصيب الأوفر فى خيالات أصحاب نظرية المؤامرة، لها صوت مسموع ونفوذ كبير داخل جميع المؤسسات المالية الدولية، وآخر ما نذكره فى هذا الشأن أن الولاياتالمتحدة قادرة، لو أرادت أن توقف قرض صندوق النقد الدولى لمصر «12 مليار دولار»، لو أن مندوبها فى إدارة الصندوق استجمع نفوذ بلده واستقطب معه حفنة مؤثرة تابعة. من جهة أخرى، يتأكد الدعم الدولى أيضًا فى صفقات السلاح المتعددة، التى حققت لمصر نقلة نوعية أضافت الكثير إلى قدراتنا العسكرية. وخضوعًا لآثار نظرية المؤامرة المهينة، تنزلق الدولة المصرية، الرامية إلى نيل سمة «المدنية الحديثة»، إلى مواجهات مُشينة مع كثير من المفاهيم القيمة شديدة الارتباط بمفهوم «الدولة المدنية الحديثة»؛ إذ يغيب عن دولتنا توافق عام على أهمية المجتمع المدنى ودوره الكبير فى تحقيق مشاركة مجتمعية فى الحكم، بما يجسد بعضًا من مبادئ الحكم الرشيد، باعتباره سمة لا تبتعد أبدًا عن صحيح مفهوم «الدولة المدنية الحديثة»، حتى باتت منظمات وجمعيات المجتمع المدنى بابًا واسعًا للتشهير بالقائمين عليه، وحجزهم دومًا فى دوائر الشك والعمالة والخيانة والتكسب، بينما الفساد بها لا يزيد علي غيره فى جهات أخرى!. وفى الامتداد لذلك، تقع تقارير المنظمات الدولية فريسة نظرية المؤامرة أيضًا، فهى إما منحازة، أو جاهلة، ودائمًا مدفوعة الأجر، ولا يكلف المسئول نفسه عناء الرد الموضوعى عليها، وتفنيد ما يراه بها من أخطاء سواء فى المعلومات أو الاستدلال والتحليل. ومن ثم تسقط عمدًا منظمات المجتمع المدنى، ومعها المنظمات الدولية، من تقدير الرأى العام المحلى لأهميتها وحقيقة دورها البارز فى تحقيق نهضة الشعوب، مثلما تشير علينا الكثير من الدروس التاريخية المقارنة. وهو تضارب آخر لا يعكس صحيح الفهم، أو جدية السعى صوب مفهوم «الدولة المدنية الحديثة». ليس فيما سبق ما ينفى أن مصر مستهدفة، لكن فهمًا صحيحًا، وسعيًا جادًا إلى تحقيق مفهوم «الدولة المدنية الحديثة»، معه ينبغى أن ندرك أن جميع الدول مصالحها مستهدفة؛ ذلك أن تضارب المصالح أمر لا يمكن تجاهله، بل إن الأمن القومى لدولة ما ينتقص بالقطع من الأمن القومى لدولة بذاتها، أو دول أخرى ما بعينها. وبالتالى فإن سعى كل دولة إلى مصالحها، المشروعة أو غير المشروعة، يصطدم بالفعل بمصالح غيرها من الدول، ومن هنا كان مفهوم «الصراع الدولى» لا ينصب فقط على الشأن العسكرى، بل يمتد وينسحب على جميع أشكال العلاقات الدولية المعاصرة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يلغى ذلك أن مصالح مشتركة تجمع بين كثير من الدول، لكن إلى حدود معينة، فلا مصالح مشتركة أبدية، ولا عداءات مطلقة، وبين هذا وذاك تُختبر قدرتنا على إدراك «الدولة المدنية الحديثة».