يظل الدور السياسى لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين لا يقل ثراءً وإثراءً لحياتنا عن دوره الثقافى والفكرى العظيم، وهو الدور الذى مازال مخفيًا عن أجيال كثيرة جاءت بعده، حيث ظنت هذه الأجيال أن عبقرية وعظمة الأستاذ العميد اقتصرت على إسهاماته فى مكتبة الأدب العربى فقط، فالأديب الأهم فى القرن العشرين لم يغب عن الساحة السياسية مطلقا منذ عام 1908 وحتى هزيمة يونيو 1967 سواء كان كاتبا فى صحف حزبية قبيل الحرب العالمية الأولى، أو مشاركا فى التوجهات السياسية من خلال آرائه السياسية السديدة فى ثلاثينيات القرن الماضي، أو منتقدا للأوضاع فى الأربعينيات، أو حتى موجها النصح والإرشاد عن طيب خاطر لقادة ثورة يوليو الشباب، والتى آمن بها وساندها منذ يومها الأول، وعلق عليها الآمال العريضة فى دحر أوضاع طالما كافح لكى يهزمها من أجل حياة أفضل للمصريين . ورغم العهود المختلفة ظل طه حسين ثابتا على مواقفه وأفكاره الأساسية فى إقامة دولة مدنية عادلة لمواطنيها ، يسودها حكم القانون، دولة قادرة على سحق الديكتاتور الذى يستبد بها، مناصرا لقضايا العدل الاجتماعى، منصفا للفقراء والعمال والفلاحين، فضلا عن دعمه لقضايا حق المصريين فى العلم والمعرفة والتعليم . بداية الرحلة الشاقة فى مطلع القرن العشرين كانت الأحزاب المصرية تصدر صفحا تلعب دورا وطنيا وتثقيفيا هاما ومميزا ، حيث كانت تفتح أبوابها أمام المثقفين والكتاب وأصحاب الفكر والرأى ، تنشر لهم وتشجعهم على نشر أفكارهم، و تفرد صفحاتها لمعاركهم الثقافية والفكرية أيا كانت انتماءاتهم السياسية ، فالثقافة غالبا ما كانت تسمو فوق الروح الحزبية الضيقة . عندما كان الفتى الأزهرى (طه) يخطو نحو العشرين ، لم يكن يهمه الزخم السياسى القائم والتنافس الشرس بين قطبى السياسة المصرية أنذاك (1908) ، ما بين الحزب الوطنى ورجالاته: مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش، وبين جماعة الإمام الراحل الشيخ محمد عبده وتلاميذه الذين أسسوا حزب الأمة وكان على رأسهم المفكر الكبير أحمد لطفى السيد، بل كان همه بوصف رجلاً من رجال الأدب والفكر وليس من رجال السياسة والأحزاب ؛ أن ينشر أفكاره وكتاباته وأشعاره، وقد أتاح له اتصاله بالشيخ عبد العزيز جاويش ( والذى تولى رئاسة تحرير كبرى صحف الحزب الوطنى "اللواء" منذ مايو 1908 وحتى رحيله إلى الآستانة عام 1912 ) أن يكتب فى صحف الحزب الوطنى ، وذكر طه حسين فى رائعته "الأيام" (الجزء الثالث) أن الشيخ جاويش هو من علمه الكتابة فى المجلات، عندما أنشأ مجلة "الهداية" وأشركه فى تحريرها، وكان أسلوب الشيخ جاويش يتسم ببعض العنف والحدة خصوصا فى تناول الأمور السياسية ، كما أن بغضه للزعيم سعد زغلول كان معروفا يتحاكى به الناس، وهو ما ظهرت آثاره على الفتى الأزهرى فيما تلى من حوادث. كذلك كان طه حسين يتردد على صديقه أحمد لطفى السيد عدة مرات فى الأسبوع فى صحيفة "الجريدة" لسان حال حزب الأمة (وكان قد تعرف عليه فى أحد درسين فقط حضرهما للإمام محمد عبده )، ليجد فى حضرته من شيوخ الحزب وشبابه قوما كثيرين، برز منهم جماعة من المثقفين ثقافة أوروبية حديثة، وقد قال عنهم طه حسين أن أحاديثهم الأسبوعية كانت تفتح له من أبواب العلم والمعرفة والثقافة ما لم يخطر فى باله من قبل، وقد شجعه لطفى السيد على الكتابة فى صحيفة "الجريدة" تشيجعا كثيرا وتنبأ له أن سيكون موضعه فى مصر موضع فولتير فى فرنسا، وقال له ذات مرة أنه سيكون كأبى العلاء "الأيام" (الجزء الثالث)، وكان مذهب حزب الأمة معتدلا لا غلو فيه ولا إسراف مثل أسلوب الشيخ جاويش والحزب الوطنى، ولكن ظل طه حسين لا يصنف باعتباره رجل سياسة بل رجل أدب، وإن ظل التماس الدائم ما بين عالمى السياسة والأدب موجودا تظهر بوادره فى قصائده السياسية، والتى كان يبدو منها أن أفكاره ليست متطرفة تدعو للثورة ، بل هى سلمية ذات طابع إصلاحى، وقد نشر فى مجلة "الهداية" ( ديسمبر 1910) قصيدة وطنية بمناسبة العام الهجرى الجديد جاء فى مطلعها: كن أنت بعد أخيك خير الهلال....وأضئ لمصر سبيل الاستقلال ضد سعد زغلول فى مايو 1919 عندما سافر الوفد المصرى برئاسة سعد زغلول إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح وعرض قضية مصر هناك ، كان طه حسين قد نال درجة الدكتوراه، بعد أن أجيزت رسالته من جامعة السوربون عام 1918 ، بعنوان " فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، ورأى طه حسين أن يذهب إلى مقر إقامة الوفد ليقابل أعضاءه، ويشكر زعيمه على موقفه المساند له فى الجمعية التشريعية عام 1914 عندما أقنع سعد زغلول أحد أعضائها بسحب اقتراحه بوقف معونة الحكومة للجامعة المصرية لأنها أخرجت ملحدا هو صاحب كتاب " ذكرى أبو العلاء"، وكان باديا أن هناك فتورا من ناحية طه حسين فى مقابلة سعد زغلول، ونحسب أن ذلك يعود إلى آرائه المستقاه من الشيخ جاويش، ولكنه أتم المقابلة والتقى عبدالعزيز فهمى وصديقه المقرب لطفى السيد عضويّ الوفد، وفى المقابلة الثانية بعد نحو عام فى باريس أيضا كان الفتور هذه المرة من ناحية سعد زغلول ، والذى عرف طه حسين سببه، وهو أنه وجماعة من تلاميذ الإمام محمد عبده عندما أحيوا ذكراه فى الجامعة، خطب طه حسين فى الحفل وقال إن مصر مدينة ليقظتها إلى ثلاثة رجال هم : محمد عبده الذى أحيا الحرية العقلية، ومصطفى كامل الذى أحيا الحرية السياسية ، وقاسم أمين الذى أحيا الحرية الاجتماعية، ولم يذكر سعد زغلول بشئ، وقد زاد الفتور بينهما حتى تحول إلى نفور وبغض مع مهاجمة الأستاذ لسياسة الزعيم باسلوب اتسم بالأداء الجاويشى العنيف، حتى وصل لدرجة أن قال طه حسين نفسه "الأيام" (الجزء الثالث) إنه كان " أطول الكتاب لسانا وأجرأهم قلما فى مهاجمة سعد زغلول قبل أن يلى الحكم وبعد أن وليه". صاحب المواقف الصلبة على الرغم من تمتع طه حسين بالقرب من الشخصيات السياسية ذات الوزن والثقل فى المجتمع المصرى انذاك ، وصداقته الوطيدة ببعضهم ، إلا أن ظهور طه حسين السياسى تأخر حتى عام 1921 ، عندما تطاحنت الأمة على : من يجرى مفاوضات الاستقلال ؟ هل هى وزارة عدلى يكن القائمة فى الوزارة بالفعل حينئذ أم يتولى الوفد تلك المهمة الجسيمة؟... ورغم أن الجميع اتفق على حق مصر فى الاستقلال ، إلا أنهم انقسموا إلى فريقين : فريق يقول" لا رئيس إلا سعد " ، وفريق يقول " إنما المفاوضات لمن ولى الحكم "، ومال العميد إلى الرأى الأخير "وإذا هو ينفق أقصى ما يملك من العنف فى مهاجمة الوفديين، وعندما يعود عدلى من المفاوضات مخفقا ، يذهب طه ليستقبله مع المستقبلين هاتفا: ليحيا عدلى" "الأيام" (الجزء الثالث). وهكذا بدأ طه حسين مشواره السياسى، ونلاحظ أنه فى موقفه هذا كان ضد صف الرغبة الشعبية التى تكتلت خلف زعيمها، كما رفض طه حسين شعار الجماهير فى ذلك الوقت " لا زعيم إلا سعد "، لما رأى فيه نوعا من الطغيان ومصادرة للآراء الأخرى، وكتب معبرا عن رأيه فى الصراع القائم (الأهرام فى يونيو 1921) أوضح فيه أن ما يحدث فى مصر هو حرب بين مبدأين: أحدهما مبدأ قيادة الجمهور إلى منفعته الحقيقية من طريق النظام والقانون، أى من طريق الديموقراطية المعتدلة المنظمة، والآخر هو : الاستئثار بما للجمهور من قوة وسلطان، والاستبداد باسم هذا الجمهور وسلوك الطرق المعقولة وغير المعقولة إلى إكراه الخصوم على الإذعان (مصطفى عبد الغنى : طه حسين والسياسة ص 40 ) . ومما يذكر فى شأن طه حسين السياسى أنه كان على استعداد أن يطأ انتماءه الحزبى فورا أمام المواقف المتعلقة بكرامة وطنه ومستقبله، فعندما رأى – عام 1922- أن عددا من رجال الوفد يقدمون للمحاكمة أمام محكمة انجليزية ويرفضون الدفاع عن أنفسهم أمامها يتور فى وجه أصدقائى العدليين ويصفهم بالجبن، قائلا" إننى عدليّ، بل أكثر عدلية من هؤلاء الناس، ولكن هل المسألة مسألة عدلي أو سعدي؟ أوليست هى قضية مصر؟ ويذهب إلى عبدالخالق ثروت رئيس الوزراء محتجا على ماحدث لخصومه السياسين. وعندما أعلن " دستور 1923" يوم 19 أبريل 1923، لاحظ الدكتور طه حسين اختفاء لقب " ملك مصر والسودان" من نصوصه، فكتب يوم 25 أبريل منددا بهذا الإهمال للحكومة المصرية فى إسقاط هذا اللقب. مع حزب الأحرار الدستوريين عندما قرر أنصار عدلى تأليف حزب سياسى فى أكتوبر 1922 هو حزب الأحرار الدستوريين، لم ينضم طه حسين إليه رسميا، رغم اتفاق اتجاهاته السياسية مع اتجاهات الحزب الوليد، الذى يضم أغلب أصدقائه فى عالمى السياسة والأدب، ولكنه شارك مثقفى الحزب ومفكريه فى تحرير صحيفته " السياسة " بمقالاته الأدبية ، ثم انفرد بالإشراف على صفحتها الأدبية فى خريف 1923 فتولى مسئولية تحريرها. وفى يناير 1924 وعندما جرت أول انتخابات برلمانية حرة بعد دستور 1923 ، وفاز الوفد بالأغلبية الساحقة، ودُعيَ سعد زغلول إلى تشكيل الوزارة، وصرح بأنه يريد أن يؤلف وزارة زغلولية اسما ودما ولحما، فتصدى له الدكتور طه، وهاجم التصريح وصاحبه هجوما قاسيا عنيفا على صفحات السياسة، بمقالات حادة اللهجة لا هوادة فيها، وكان يضع مقالاته بدون توقيع أو بتوقيع ساخط وغاضب، وعندما استفحل الهجوم على رأس "وزارة الشعب "، لجأ سعد زغلول إلى النائب العام متهما صاحب المقالات بإهانة رئيس الوزراء، فما كان من النائب العام أن استدعى كتاب وصحفيي السياسة ، ويروى طه حسين أنه عندما استدعى للنيابة رفض أن يجيب عن الأسئلة، ما حدا بالنيابة أن توقف التحقيق. وحتى بدايات عام 1926 ظل طه حسين وفيا لسياسة حزب الأحرار الدستوريون، رغم حدوث تقارب بين حزبه والحزب الجديد " حزب الاتحاد" وهو صنيعة الملك، من أجل الحد من شعبية حزب الوفد وزعيمه. الثمن دفع "طه حسين الأديب" ثمن المواقف السياسية ل "طه حسين السياسى"، فعندما ظهر كتاب "فى الشعر الجاهلى " فى أبريل 1926، انفجرت براكين الغضب تحت أقدام المفكر الفذ، الذى ظنها فى البداية معركة علمية ثقافية هو أهل لها بتكوينه الفكرى والأدبى، وقادرا على الدفاع عن منهجه فى البحث، فإذا بها معركة سياسية مشتعلة تحت السطح، تحالف فيها خصومه ممن ذاقوا الأمرين من مقالاته ونقده اللاذع فى ميادين السياسية، وانتقل الموضوع بتحريض من السلطة والقصر إلى ساحات الرأى العام ، وسقط المفكر الفذ فى فخ السياسة القذر، وعندما خرج طلاب الأزهر فى مظاهرة إلى مجلس النواب تهتف بسقوط طه حسين، وقف فيهم سعد زغلول (رئيس المجلس) خطيبا ومهدئا حيث قال" إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر على هذه الأمة المتمسكة بدينها، هبوا أن رجلا مجنونا يهذى فى الطريق، فهل يضير العقلاء شئ من ذلك، إن هذا الدين متين، وليس الذى شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ماشاء، وماذا علينا إذا لم تفهم البقر" ( مصطفى عبد الغنى : طه حسين والسياسة، ويذكر أنها نشرت بجريدة كوكب الشرق يوم 17/5/1926). وساند طه حسين فى محنته وزير المعارف آنذاك (على الشمسى باشا) وكان وفديا رقيق الوفدية، أما الموقف الذى يذكره التاريخ فى هذا الصدد، فهو موقف الأديب والمفكر العظيم عباس العقاد ( كاتب الوفد الأول)، الذى وقف فى مجلس النواب مفندا تقارير اللجان التى شكلها مجلس النواب وأدانت كتاب "فى الشعر الجاهلى" ، ومؤكدا أن هذه اللجان لا تبلغ شأن طه حسين من المعرفة بالآداب العربية، وأن الجامعة المصرية لا يمكن أن تجد بسهولة رجلا يقوم بتدريس الأدب العربى مثلما يقوم به صاحب الكتاب أو على درجة قريبة منه، لقد قذف االعقاد بحزبيته وراء ظهره ووقف وقفة الفارس الحر الذى يدافع عن حرية الفكر والرأى والتعبير ضد رجال الحكم والسياسة، بل وضد زملائه الوفديين ايضا. ولم ينس طه حسين فى ظل تلك الايام الكئيبة الموقف المتخاذل من رجال " الأحرار الدستوريين" فى مساندته فى أزمته وهو ما كان له أثر عميق على خطواته فى ميدان السياسة فيما بعد. ولم يكن هذا هو الثمن الأوحد الذى دفعه العميد أثناء نزوله معترك السياسة، فبعد خمود أزمة " فى الشعر الجاهلى"، لم يشارك فى السياسة مباشرة، بل تفرغ إلى محاضرات الجامعة ودراساته الاكاديمية وأبحاثه الادبية، حتى بلغ مكانة جعلت زملاءه ينتخبونه عميدا لكلية الآداب فى بداية عام 1928، وهنا أطل وجه السياسة القبيح، فلم يكن مألوفا انتخاب عميد مصرى الجنسية، وكان معروفا أن الانجليز لن يقبلوا بذلك، كما أن وزارة وفدية لن توافق على تعيين طه حسين عميدا لكلية الاداب، لماضيه السياسى، فاستدعاه وزير المعارف "على الشمسى باشا"وكاشفه بحرج الوزارة من تعيينه عميدا،وطلب الوزيرمن الدكتور أن يتنازل عن هذا الترشيح، فقبل الدكتور عرفانا بموقف الوزير المساند له فى أزمة " فى الشعر الجاهلى" ، ولكنه اشترط ان يصدر قرار تعيينه،ثم يباشر عمله ولو ليوم واحد، احتراما لأصوات ورأى زملائه الذين انتخبوه ، ثم يستقيل فى المساء، وقد كان،وأصبح طه حسين عميدا لكلية الاداب ليوم واحد ، ثم استقال ليتولى من يليه فى الاصوات وهو الفرنسى " جوستاف ميشو"، وجدير بالذكر أنه عندما انتهت فترة عمادة ميشو فى نهايات 1930، أعاد زملاء طه حسين انتخابه مرة أخرى، وفى هذه المرة صدق وزير المعارف انذاك (مراد سيد احمد) على التعيين ليصبح طه حسين أول مصرى يتولى منصب عميد كلية الاداب وتسلم مهام منصبه فى نوفمبر 1930. صراعه مع الملك فؤاد مع بدايات عام 1932 قرر الملك فؤاد منح مجموعة من السياسين الموالين له درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة المصرية، فتصدى الدكتور طه قائلا لوزير المعارف (حلمى عيسى) " إن الجامعة هى التى تمنح هذه الدرجات بوحى من نفسها ،لا بوحى من الحكومة، ولا تستطيع أن تمنحها لأفراد حزبيين"، ولكن الحكومة لم تعدم وسيلة ولجأت إلى عميد كلية الحقوق الذى قبل ما رفضه عميد كلية الآداب، وأقيم الاحتفال بالفعل يوم ( 27 فبراير 1932)، وبعد الاحتفال بأربعة أيام جاء فى خبر صغير فى جريدة المقطم بتاريخ 3 مارس 1932 ما نصه " حضرة صاحب المعالى وزير المعارف العمومية قد قرر نقل الأستاذ الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وزارة المعارف العمومية فى وظيفة مساعد لمراقبة التعليم الأولي"، وبلغ غضب الجامعة مداه، مجالسها وطلابها، وانتقل الغضب تباعا إلى خارج أسوار الجامعة ليصل إلى الصحافة فالرأى العام، واجتمع مجلس كلية الآداب للرد على موقف الحكومة، وكان رأى الأساتذة الفرنسيين أن يكون الرد شديد اللهجة، فى حين كان رأى الأساتذة الانجليز والمصريين أن يكون الرد أقل حدة، أما رد الطلاب فكان فى صورة مظاهرات اندلعت داخل أسوار الجامعة وخارجها، وأضربوا عن تلقى محاضراتهم فى الجامعة، وأرسلوا خطابا إلى الملك فؤاد يناشدونه عودة الأستاذ، وحفاظا على استقلال الجامعة وحريتها، ثم اندفعوا فى مظاهرة إلى منزل أستاذهم، لإعلان مساندتهم لهم، وعندما خرج لهم حملوه على الأعناق ، وازدادوا حماسا به، وازداد صلابة بهم، ولقبوه ب "عميد الأدب العربى" وليس فقط " عميد كلية الآداب". وفى 29 مارس 1932 أحيل طه حسين إلى المعاش، وفصل من عمله الحكومى، وقد أنذرت الحكومة المصرية البعثات الأجنبية حتى لا تقدم له عروضا للعمل. وقد خرج العميد من تلك المواجهه أقوى مما كان، وأصبح بطلا شعبيا كبيرا فى نظر الجماهير، التى رأته يتصدى لنظام ديكتاتورى قمعى بمفرده، فقررت أن تقف بجانبه، تؤيده وتسانده، وكانت تلك الوقفة الجماهرية نقطة تحول فى حياة طه حسين وأفكاره، الذى أدرك أن انحيازه للجماهير البسيطة هو دائما الاختيار الصحيح، وأنهم القوة الحقيقية، ما انعكس على موقفه من حزب البسطاء " حزب الوفد" ولم يعد يناصبه العداء نفسه الذى كان من قبل . مع ثورة يوليو سيذكر التاريخ دوما أن طه حسين هو أول من أطلق لقب "ثورة " على أحداث يوليو 1952، وتبعه الناس بعده ، وسيذكر أيضا أن العميد ساند الثورة وأيدها بكل جوارحه، ورأى فى أحداثها حلمه القديم فى أن يرى مصر دولة ديموقراطية، مدنية، يسودها القانون والعدل الاجتماعى لأبنائها، يحكمها أولادها لخير أولادها. فعندما هاتفه سفير مصر فى روما ليخبره بما حدث فى مصر، كان أول رد فعل للعميد أن هتف لزوجنه "قامت الثورة فى مصر، ثورة ضد الملك"، وكان من الانفعال أن سقط مغشيا عليه. وقد اختير طه حسين ضمن لجنة الخمسين لوضع مشروع الدستور الجديد...وكتب فى الأهرام بتاريخ 13 ديسمبر 1952 ليؤكد على أهمية "ألا يكون الدستور منحة تهدى للشعب ، فليست فى مصر قوة تستطيع أن تهدى إلى الشعب دستورا ، وإنما الشعب هو الذى يعطى نفسه الدستور الذى يريد". وكان رد فعل العميد جليلا عظيما عندما وقع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، فتنازل عن وسام " جوقة الشرف" الذى منحته له فرنسا ، وتصدى لفرنسا بمقالاته التى هاجم فيها رئيس وزرائها ، ووصفه بالمجنون، وذكره بهزائم فرنسا فى تونس ومراكش والجزائر التى توشك على التحرر. هذه بعض من السيرة السياسية لعميد الأدب العرب، والذى مر على وفاته أربعون عاما، نذكر خلالها إسهاماته الأدبية والسياسية بكل امتنان وعرفان وتقدير، ونأمل فى أن تصل أفكاره وآرائه و مواقفه الصلبة إلى عموم الناس.