ظلت فكرة تقعيد الأحكام الفقهية هاجسًا يتردد في أذهان الفقهاء الأصوليين منذ القرن الثاني للهجرة، ولئن كان فضل الشافعي (204ه) هامًا في تركيز الأصول وضبطها، فإن فضل من تلاه من الأصوليين تمثل في تطوير هذه الأدلة وفي تحقيق ملاءمتها للحاجات العمرانية المتجددة، سيما ان الحوادث غير متناهية من عصر إلى آخر، بل إن هذه الحوادث تتطلب أحكامًا قد تصلح لعصر ولا تصلح لغيره. هذه المسألة المتشعبة ولدت اختلافًا في الرؤية لأوجه التقعيد وقبول بعض الأصول وإنكار أصول أخرى، ولذلك احتدت المناظرات والمجادلات ناهيك هن أن الفقه لصيق بعلم الكلام وأفانين اللغة، بل إن علم الكلام قد مارس تأثيرًا كبيرًا في أصول الفقه في أزمنة متباعدة، وهذا التأثير لم يقف عند حد التطرق إلى مواضيع كلامية بل تجاوز ذلك إلى منهج العلم نفسه. ونتيجة لهذا التداخل تنوعت المصطلحات في المدونات الفقهية لتدل في بعض الأحيان على مفهوم واحد. وفي كتابها “,”النص والاجتهاد.. في الفكر الأصولي“,”، الصادر بالقاهرة، عن دار “,”رؤية“,” للنشر والتوزيع، تساءلت الباحثة التونسية بثينة الجلاصي.. كيف يمكن للمجتهد أن يقرأ النص الشرعي؟ وبأي عين يمكن للاحق أن يقرأ اجتهاد السابق؟ وما حدود العقل في هذه القراءة؟ وهل تجوز القراءة دون تفكيك آليات الخطاب وأبعاده فيغلب الإيمان على البرهان ويغلب التبرير على التأويل؟ وعبر ثلاثة أبواب، هي مساحة التنقل بين دفتي كتاب الجلاصي، مدرس الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القيروان، كانت الإجابة على هذه التساؤلات.. في الباب الأول تعرضت الباحثة لكتاب العز بن عبد السلام “,”قواعد الأحكام في مصالح الأنام“,” مبررة اختيارها بأمرين.. أولهما ندرة المؤلفات الباحثة في هذا الأمر خاصة أنها لم تعطي لمشروع ابن عبد السلام حقه فتنصفه كما أنصفت من قبله فقهاء وأصوليين عاصروه مثل ابن تيمية وتلميذه القرافي وغيرهما من الفقهاء ، ناهيك أنه ظهر في القرن السابع للهجرة، وهو قرن نضجت فيه العلوم الأصولية ونزعت فيه المعرفة الدينية منزعًا علميًا تقعيديًا، ولكن هذا لا ينفي وجود مؤلفات تناولت العز بن عبد السلام وذكرت أثره ذكرًا عابرًا، من هذه المؤلفات ما عني بذكر التراجم مثل “,”طبقات الشافعية الكبرى“,” للسبكي وهو اكثر المؤلفات التي أولت للعز مساحة كبيرة من التعريف كما تناول فتنة الحنابلة ضد ابن عبد السلام والمراسلات التي جرت بينه وبين الملك الأشرف، وفي هذا الإطار يندرج كتاب “,”تاريخ علماء بغداد“,” لابن رافع السلامي وكتاب “,”مرآة الزمان“,” لسبط بن الجوزي، وكذا كتاب “,”سلاطين المماليك“,” لمحمود رزق سليم. ولئن كان فضل هذه الكتب هو التعريف بشخصية ابن عبد السلام والتفطن إلى خصائص عصره، فإنها لم تقف عند مميزات آثاره، وإنما كان الغرض منها ذكر التراجم . أما القسم الثاني من المؤلفات، فعني بذكر آثار ابن عبد السلام وبيان منهجه وفضل مشروعه في الثقافة العربية الإسلامية، وبيان أثر عصره في بلورة أفكاره. إلا أن هذه المؤلفات بقيت قاصرة ، لأنها لم تعن من جهة بكتاب “,”قواعد الأحكام في مصالح الأنام“,” ولأن همها كان موجهًا إلى التعريف بالرجل، ولكن في شيء من التعمق والإضافة فكانت نظرتها إجمالية تتقصى أخبار ابن عبد السلام ومواقفه، ومن بينها كتاب حديث لباحث هندي هو النَّدوي رضوان علي عنوانه “,”العز بن عبد السلام“,” وهو كتاب أسهم في تلمس فكر الرجل والإلمام بعصره، ولكنه من جهة أخرى لم ينظر مؤلفه إلى المسألة نظرة علمية تروم الحياد عن العبارات التقويمية، والأرجح أنه كان يكتب بدافع الإعجاب بشخصية ابن عبد السلام، ناهيك أنه صرح بشح المؤلفات في إفادته. الأمر الثاني الذي دعا الباحثة للاهتمام بكتاب “,”قواعد الأحكام“,” فيتمثل في طرافة المبحث، حيث ربط المؤلف بين أمرين يمثلان سر السعادة في المعاد والمعاش، وهما القواعد والمصالح من ناحية، والأحكام والأنام من ناحية أخرى. مفهوم ابن حزم للعقل البشري وفي مبحث آخر تحت عنوان “,”حدود اجتهاد العامي عند ابن حزم (456 ه)، تتعرض الكاتبة لمفهوم ابن حزم للعقل البشري فتقول “,” ينطلق ابن حزم من مصادرة نجد صداها في ثنايا كتابه، وهي أن كل إنسان قادر على فهم أمور دينه ودنياه، بفضل ما جبل عليه من قدرة التمييز وربط الأسباب بمسبباتها، وهذه القدرة على الفهم فطرية تنطلق من الحواس لتصبح في مرحلة متقدمة معرفة عقلية، ويصير فيها الإنسان قادرًا على الاستدلال، لا على مجرد الفهم فحسب، وعلى هذا الأساس فلا حجة لأى إنسان بادعاء جهل أحكام الشرع ما دام يتمتع بوسائل المعرفة، وأهمها العقل، تلك القوة الدالة على فعل الله في النفوس، بل إن ابن حزم لا يسوّي بين مختلف فئات المجتمع في القدرة على الفهم فحسب، وإنما يسّوي بينهم في امتلاك وسائل الفهم، وهو إذ يتخذ هذا الموقف فإنه ينبذ مقالة وعقيدة ترسختا في الضمير الجمعي ونعني دونية العامي، وكأن العقول مصنفة على مقاس الطبقات التي ينتمي إليها أصحابها، بل لكان فهم العامة مصادر بالمحدودية وضيق الأفق، ولذلك وجب منعهم وزجرهم وضربهم، وفي هذا الإطار نفهم حديث الغزالي في العامة في قوله : فمن أطعم الصبي الضعيف اللحم والخبز، أو مكنه من تناوله، فقد أهلكه، وكذلك العامي إذا طلب بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم، ومنعهم، وضربهم باردة، كما كان يفعل عمر (رضي الله عنه) بكل من سأل عن الآيات المتشابهات. القياس الفقهي.. صراع خطاب ماذا نعني بصراع الخطاب؟ وما علاقة القياس الفقهي به؟ إن دائرة اهتمامنا بالقياس الفقهي تعني أساسًا بالجانب التأصيلي دون إهمال الفروع، إذ أنها تمثل المظهر العملي لاستخدام القياس كما اننا سنهتم بالقياس في بعديه المنهجي، وفي تحوله إلى مصدر تشريعي تستقى منه الأحكام، وهو ما يجعله خطابًا تتنازعه رؤى مختلفة حسب انتمائها المكاني والزماني والعقائدي والمذهبي، وحسب علاقتها بمنتجات ثقافة الآخر، ونعني أساسًا علوم الأوائل. وانطلاقًا من هذه الرؤى المختلفة أمكن لنا أن نتحدث عن صراع يتخذ شكل المحاورة حينا، والقطيعة والإعراض حينا آخر، وإن كنا نرى أن الأعراض محاورة بوجه من الوجوه. يمكن أن نصنف مظاهر الصراع في خطاب الأصوليين من خلال مبحث القياس إلى أربعة أقسام هي في مجملها ثنائيات أولها: إثبات المصطلح ونفيه، وثانيهما لإثبات المفهوم ونفيه، وثالثهما الخطاب الطبيعي والصناعي، ورابعهما الصلاحية والفساد، وهذه الثنائيات تتعايش في الخطاب الأصولي، فيكون الفقيه هو المتكلم وهو المتلقي، وقد يوهم بوجود متلق يخالفه الآراء والأقوال، وقد يستحضر متلقيًا كان في فترة زمنية ما متكلمًا ومنشئًا للخطاب، وهو امر من الصعوبة بمقدار لأن الخطاب الأصولي بقطع النظر عن مراميه التنظيرية هو خطاب “,”معقد“,” تتداخل فيه الأدوار، وهو ما عبرت عنه المناظرات والخلافيات من جهة والمجادلات من جهة أخرى، وما الجدل إلا لعبة نظرية على حد عبارة “,”روبول“,”. القياس الصحيح عند ابن تيمية مفهوم القياس التيمي من المواضيع التي درستها عديد البحوث المعاصرة، وقد أشار النشار إلى أن “,”ابن تيمية لم يكن هادمًا فقط، بل كان يهدم جانبًا ليبني جانبًا، فعل هذا في مبحث الحد كما فعل هذا في مبحث القضايا ويفعل نفس الشيء في مبحث الاستدلال، إلا أننا نود في الحقيقة أن نظر إلى القياس التيمي باعتباره وجهًا من وجوه التقنين، تقنين ما يجب ان يكون، فيتسنى لنا بذلك فهم الخلفية الفكرية لما يسميه ماكس فيبر بالقانون الذاتي، فتكونه بذلك نظرتنا إلى هذه المسألة من زاوية علم اجتماع الحقوق. إن اختيار الباحثة لهذه المقاربة يعود لإيمانها بما أكده ماكس فيبر كمن أنه “,”يمكن تفهم عمل الحقوقيين عندما يعملون على وضع ما يجب ان يكون فالخطاب القانوني هو في باطنه عمل تفهمي للمجتمع، فهو بناء قام انطلاقًا من نماذج من المفاهيم وُلدت بدروها من الحياة الاجتماعية نفسها، هذه المفاهيم ترتبط بالبنى الاجتماعية الواقعية، لذلك فالقانون ليس معيارًا فقط، إنه تصور للحقيقة الاجتماعية، إنه بصورة ما علم للاجتماع، بل هو علم اجتماع فعال أو نفعي، والقانون لا يكون قانونًا إذا لم يصر تطبيقا واقعيا، ويمكننا في الحقيقة ان نعتقد ان جزءًا من القانون يمر في الواقع، أي ان القانون هو احد العلوم الاجتماعية المطبقة بل هو أبلغها“,”