تفاصيل جولة وزيرالتعليم بمدارس البدرشين والصف بالجيزة اليوم    هيئة الرقابة المالية تُصدر «دليل خدمات متكامل» للقطاع المالي غير المصرفي    وزير الدفاع : الاستعداد الدائم لمواجهة المخاطر والتهديدات واجب لا يحتمل التهاون    الكرملين: الرئيس الروسي يلتقي المبعوث الأمريكي «ستيف ويتكوف» غدا    طلائع الجيش يستقبل السكة الحديد في مواجهة قوية بدور ال32 لكأس مصر    موقف الثنائي «الشناوي» من التواجد مع منتخب مصر    ضبط المتهمين بسرقة «كولدير» ببني سويف    طلاب ابتدائية القاهرة يؤدون امتحاني التربية الدينية والرياضيات.. وطلاب الإعدادية يبدؤون امتحانات الدراسات الاجتماعية والتربية الفنية    «السلم والتعبان 2» يكتسح.. و«ولنا في الخيال حب» يلاحقه بقوة في سباق الإيرادات    إعادة التدوير وتسويق المنتجات في ملتقى فتيات أهل مصربشرم الشيخ    وزير الأوقاف: الفائزون بمسابقة القرآن يكرمهم الرئيس السيسى في ليلة القدر    مشروع الجينوم: التخطيط لتحليل 25 ألف عينة بحلول 2027    قسم أمراض الذكورة بقصر العيني يحصد الاعتماد الأوروبي مجددا كمركز تدريبي خارج أوروبا    "معلومات الوزراء": 2 مليار دولار قيمة سوق الذكاء الاصطناعي في أفريقيا خلال عام 2025    موعد مباراة السعودية وعُمان في كأس العرب 2025.. والقنوات الناقلة    متحدث «الوزراء»: الإقبال السياحي على المتحف الكبير فرض ضرورة توفير خدمات جديدة    محامي رمضان صبحي يكشف 3 سيناريوهات أمام المحكمة ويحسم حقيقة دعم الأهلي القانوني    متى يبدأ رمضان 2026 وعيد الفطر؟ توقعات فلكية لموسم العبادة    تشيلسي ضد أرسنال.. تعرف على مدة غياب كايسيدو بعد طرده فى الديربى    محافظ أسوان يوجه بالاستعداد المبكر لموسم الأمطار والسيول    تطعيم 509 آلاف طفل ضد الحصبة بنسبة 90% في أسوان    فاكسيرا: لا يوجد فيروس خطير يهدد حياة الطلاب والترويج لذلك خطأ.. إنفوجراف    «جبران»: منظومة رقمية متكاملة لتطوير الخدمات بالوزارة    بدء تصويت المصريين بالكويت في الدوائر الملغاة بالمرحلة الأولى لانتخابات النواب    «الأرصاد» تكشف تفاصيل آخر تحديث لخرائط الطقس    محافظة الجيزة : المركبة كيوت أرخص من التوكتوك وترخص كسيارة أجرة    الداخلية تضبط مروج صواعق كهربائية وعصي صدمات عبر مواقع التواصل    بالفيديو.. أستاذ قانون: 70% من دوائر المرحلة الأولى ستعاد فيها انتخابات مجلس النواب    رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر يهنئ المجمع العام لكنائس النعمة بانتخاب اللجنة التنفيذية الجديدة    ترامب يتعهد «النظر‌‌» في ضربة للجيش الأمريكي أجهزت على ناجين من قارب مستهدف بالكاريبي    مصر تعلن تصنيع أجزاء من الطائرة رافال محليا في ايديكس 2025    "يوم العلاج بالنباتات والروائح" فعالية بصيدلة حلوان    "التمثيل التجاري" يبحث مع المستشار التجاري الأمريكي تعميق الشراكة الاقتصادية    وزير الصحة يترأس اجتماع اللجنة الاستشارية العليا للتنمية البشرية    هيئة الاستثمار تستعد لإطلاق منصة تراخيص وموافقات إلكترونية موحدة    عاجل- قطر تفتتح مشوار كأس العرب 2025 بمواجهة فلسطين على ملعب "البيت"    «طلع لفظ مينفعش يتقال».. محمد رمضان يكشف كواليس ترحيل "كهربا" من الإمارات    طاهر محمد طاهر يكشف كواليس مشاجرة تريزيجيه أمام الجيش الملكي وأسباب تألقه في عدة مراكز بالأهلي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأثنين 1-12-2025 في محافظة الأقصر    الرئيس الإندونيسي يحث حكومته على التأهب لتغير المناخ في ظل أزمة الفيضانات    القاهرة تحتضن فعاليات الاجتماع الرابع والعشرين للأطراف المتعاقدة في اتفاقية برشلونة    بمناسبة الأسبوع العالمي لمقاومة البكتيريا... الثقافة الصحية بمديرية الشئون الصحية بالأقصر تكثف الجهود التوعوية    أوسينات للمزادات: بيع لوحة المسيح على الصليب مقابل 2.94 مليون يورو    "علوم رياضة" قناة السويس تعزز الوعي الصحي في المدارس بمبادرة "صحتنا حياتنا"    بدءا من اليوم.. الحجز الكترونيا فقط لزيارة المتحف المصرى الكبير    ارتفاع أسعار النفط بفعل خطة أوبك+ للإنتاج    «التضامن» تقر تعديل قيد جمعيتين في الجيزة والقليوبية    انتخابات هندوراس.. بدء فرز الأصوات وسط دعم ترامب لعصفورة    دراما بوكس| هنا الزاهد تغيب عن رمضان 2026.. واستئناف تصوير «الكينج» بعد الحريق    موعد غُرة شهر رجب فلكيا لعام 1447 هجريا.. كم مدة رؤية الهلال في مصر؟    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يختتم دورته العاشرة ويعلن جوائز مسابقاته    إخلاء سبيل المعلمة المتهمة في واقعة تلميذ لغات الألومنيوم بكفالة مالية بقنا    مصرع سيدة إثر اصطدام سيارة بها بالطريق الدائري في القليوبية    الداخلية تضبط سايسًا بدون ترخيص بعد مشاجرة ومنع مرور السيارات بالجيزة    كوكا: هذا موقفي من الانضمام ل الزمالك.. وشخص ما لا يريدني في المنتخب    القاهرة تستعد لافتتاحية كبرى بمدينة الفنون والثقافة بعرض "تأثير بيغماليون"    عواصف ثلجية تقطع الكهرباء في ويسكونسن وتلغي مئات الرحلات الجوية في شيكاغو    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 30نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا.... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيحيون بين محبة المتن وإزعاج الهامش
نشر في البوابة يوم 24 - 07 - 2016

"أنا لا شيء إن جهلتني وشيء إن عرفتني وكل شيء إن أحببتني"، مقولة شهيرة للقديس فرنسيس الأسيسي مؤسس رهبنة الإخوة الأصاغر "الفرنسيسكان"، اختتم بها الدكتور إكرام لمعي مقدمة كتابه "المسيحيون بين الوطن والمقدس.. الدور والمصير"، والصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب، والذي يرصد خلاله الدور الفاعل للمسيحيين في بناء الحضارة العربية والإسلامية يدًا بيد مع المسلمين العرب الذين تمصروا والمصريين الذين أسلموا، مبتدئًا بتاريخ المسيحية قبل دخول الإسلام. مؤكدًا بين طيات كتابه أن روح الأخوة والمحبة كانت هي الشعور السائد بين المسيحيين والمسلمين، وأن دين الإنسانية هو الدين الذي حكم الجميع على أرض الوطن الواحد، على عكس ما نراه اليوم من فاشية وتجاوزات وأحداث عنف تجاه الأقباط على مرأي ومسمع من الدولة التي لا تحرك ساكنًا لوأد الفتنة واقتلاعها من الجذور.
ففي عام 1219 م جاء إلى مصر القديس فرنسيس الأسيسي ورغم معركة حصار دمياط الضارية إلا أنه استطاع بواسطة القوات الصليبية أن يعبر إلى معسكر السلطان الكامل الأيوبي خارج مدينة فارسكور. وقد استقبله السلطان الكامل في سماحة واهتمام وأمر بعودته سالما إلى المعسكر الصليبي وبعد هذه المقابلة أذن السلطان الكامل للرهبان الفرنسيسكان بالإقامة في مصر وممارسة دعوتهم بها كما سمح لهم بزيارة الأراضي المقدسة.
يتعرض الكتاب في فصله الأول للمسيحيين قبل الإسلام، ويطرح سؤالًا وهو، هل كان المسيحيون عرب قبل الإسلام، وماذا كان تأثيرهم في بيئتهم العربية؟!، وما مدى تفاعلهم مع الحضارات التي عاشوا في ظلها؟. وللإجابة على السؤال يُعرّج المؤلف على بداية الكتاب المقدس - "العهد الجديد" - بميلاد السيد المسيح ويسرد تاريخيًا قصة السيد المسيح وتلاميذه في الأناجيل الأربعة متى ومرقص ولوقا ويوحنا، وما جاء بسفر أعمال الرسل عن التجمع الشعبي في أورشاليم للذين آمنوا بالسيد المسيح من جنسيات متعددة اعتنقوا المسيحية، مؤكدًا أن المرجح دخول المسيحية إلى الجزيرة العربية بعد القرن الثالث الميلادي، حيث كانت شبه الجزيرة العربية تشتهر بوجود اسقفيات مسيحية على طول السواحل الشرقية والجنوبية، ويشير "لمعي" لوجود إشارات لأسماء اساقفة من الكنيسة الشرقية على طول الخليج العربي حتى أواخر القرن الثالث عشر وعلى ساحل اليمن وحضرموت حتى القرن التاسع عشر، وكانت مدينة نجران شمال اليمن تعتقد في معظمها بنظرية الطبيعة الواحدة للمسيح وفي عام 520م استشهد عدد كبير منهم على يد ذي نواس الملك اليهودي، مما أدى إلى محاولة الأحباش من اتباع لاهوت الطبيعة الواحدة أن يجتاحوا المنطقة بتحفيز من الإمبراطورية البيزنطية.
ومن هنا يمكن القول إن المسيحية كانت موجودة ومنتشرة بين القبائل الرئيسية على طول سواحل طرق التجارة وكان رجال الدين المسيحي معروفين إلا أنه لم يكن هناك مؤسسة مسيحية واضحة المعالم مثل التي كانت في العالم البيزنطي وفي مصر حتى القرن الثالث الميلادي. كما يشير إلى استقلال الكنيسة الشرقية في نهاية القرن الخامس عن القسطنطينية، والتي انشأت البطريركية الخاصة بها وقامت بدعوى إرسالية وصلت حتى بلاد آسيا، ونحو الجنوب وصلت حتى الجزيرة العربية، وهذا يوضح أن الكنيسة الشرقية كانت لها هويتها الخاصة بها مما أعطاها استقلالية واضحة بملامح محددة.
في القرن السابع الميلادي غزا الفُرس مصر ولكنهم لم يحاولوا فرض ديانتهم الزرادشتية على المصريين، ولم يستمر الاحتلال الفارسي إلا 11 عامًا وأنتهى بناء على اتفاق صلح بينهم وبين البيزنطيين وهنا فقد المصريون الثقة في البيزنطيين وحمايتهم وكانوا مؤهلين لقبول الفتح الإسلامي، ومن هنا كان دخول العرب المسلمين إلى مصر حربًا على البيزنطيين الحاكمين للبلاد أكثر منه حربًا على المصريين أهل هذه البلاد المحتلين المغلوبين على أمرهم.
المسيحيون والفتح الإسلامي
أدرك المسيحيون بعد فترة وجيزة للفتح الإسلامي لمصر أن وجود العرب بينهم سوف يكون وجودًا مستديمًا بخلاف الذين مروا عليهم من قبل، وهذا الوجود الإسلامي يتطلب منهم أن يقدموا أنفسهم للمسلمين كبشر يؤمنون بدين المسيح الذي به بعض اختلافات عن الإيمان الإسلامي، وقد اهتموا بالطريقة التي يعبرون بها لمتحدثين بالعربية لهم حضارة تختلف عن حضارتهم؛ حضارة الصحراء والشعر والقلم والبيان والقيم البدوية الأكثر محافظة من القيم الحضرية والمدنية، وقد استعانوا بالكتاب المقدس مع وضع تفسيرات له تناسب الحضارة القادمة عليهم، فكان من الأمور التي أكدوا عليها بشدة أن الإسلام دين إبراهيم الحنيف، كما رأى الكثير من المسيحيين أن الإسلام يمثل لهم تحديًا فكريًا حقيقيًا.
ولا شك أن الفتح الإسلامي لمصر كان نقطة فارقة في التاريخ الطويل لها، إذ كانت المرة الأولى التي يتغير فيها شكل مصر الحضاري بعد قرون من الخمول الحضاري في ظل الاحتلال الروماني الذي استمر قرابة سبعة قرون، وبالفتح الإسلامي صارت مصر مركزًا من مراكز صنع الثقافة العربية والإسلامية في العالم.
بعد أن تعربت مصر ودول الشرق الأوسط تغير نهجها الاجتماعي والثقافي "الدين واللغة"، وقاموا بدور رائع وواضح في العلوم والآداب والفلسفة وحوار الأديان والتواصل الحضاري. فقد حدث تغير في الهوية المصرية المدنية والحضارية، بدخول العرب بهويتهم الصحراوية البدوية وعاداتهم وتقاليدهم، حيث تمصر العرب المسلمين وتحول بعض المسيحيين إلى الإسلام وتزاوج العرب والمصريين وهكذا حدث تحول ملحوظ في تكوين الهوية المصرية، كما يرصد الكتاب دخول عنصر جديد في النسيج الاجتماعي المصري، حيث تكون نسيج ثقافي عربي إسلامي في صيغة مصرية متفردة ونتج عن ذلك إسلام حضاري مدني ومسيحية عربية لغةً وثقافةً ولاهوتًا.
استمر التفاعل بين المسلمون المسيحيون لأربعة قرون كان المسيحيون أغلبية سكانية حتى نهاية الدولة الأموية، وفي الدولة العباسية كان للمسيحيين الدور الأعظم في ترجمة العلوم والفلسفة العالمية اليونانية والسريانية إلى العربية وكان الخليفة المأمون يقدم للمترجم وزن كتابه ذهبًا تقديرًا لعلمه ولما ترجمه. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى تقدير الخلفاء المسلمين في ذلك الوقت للعلوم وأهميتها في صنع مستقبل البلاد. كما كانت تدور في قصور الخلفاء المسلمين حوارات إسلامية مسيحية.
كان المجتمع العباسي يموج بحركة حضارية اجتماعية ثقافية تعددية على مستوى البشر الذين يعيشون فيه، من هنا كان للمسيحيين العرب دور بارز ليس فقط في نقل أو ترجمة التراث اليوناني إلى اللغة العربية، والذي استخدمه المثقفون المسلمون فيما بعد في بناء الحضارة العباسية بل كانوا – أيضًا – سببًا في تشجيع وتحفيز المثقفين والحُكام المسلمين؛ لكي يناقشوا معًا كيف يكون لهذا المجتمع هوية فكرية ودينية وحضارية معنية بذاتها. في هذا الزمن البديع نشأ علم الكلام الإسلامي وهو المقابل لعلم اللاهوت المسيحي، وقد دار نقاش معاصر بين مختصين بدراسة تاريخ الفكر الإسلامي حول موعد انبثاق أو نشوء علم الكلام، كما أن التأثير المسيحي العربي الأصيل وسيرته، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإسلام العربي الأصيل ذي الخلفية المصرية الفرعونية واليونانية والفينيقية والآشورية، وهكذا تآلفت المسيحية العربية فكرًا وعملًا وأسهمت بقوة في نشأة الفلسفة الإسلامية من خلال الحوار الفقهي واللاهوتي العميق والمستنير والمنفتح ونوعية الأسئلة التي وجهها الفكر الإسلامي للمسيحية، والدفاع المسيحي عن صحة الدين المسيحي.
المسيحيون والحملة الفرنسية
شهد وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م مرحلة انتقالية في تاريخ مصر من أوضاع القرون الوسطى في الفكر والسياسة إلى انطلاقة دولة عصرية في مجال الإدارة الحديثة والزراعة والصناعة والتعليم؛ ولقد تميز موقف المسيحيين المصريين من الحملة الفرنسية برد فعل متحفظ تجاه سياسة نابليون، حيث روج نابليون لأنه قدم لمساعدة المصريين ضد المماليك وتخليصهم من الظلم الواقع عليهم لأنه يحترم الإسلام كدين وكحقيقة تاريخية. وبرر الأقباط موقفهم الرافض للحملة بأن نابليون جاء إلى مصر غازيًا ومعلنًا نفسه حاميًا للإسلام ومدافعًا عنه بطريقة مستفزة لا تنطلي على أحد. وهذا الموقف يؤكد على وحدة الصف الوطني بين المسيحيين والمسلمين ورفض الجميع لسياسة المعتدي وتدخله في الشئون الداخلية لأبناء الوطن الواحد، ولكن موقف الفرنسيين تغير تجاه المسيحيين المصريين بعد ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين، والتي شارك بها المسيحيين بقوة، مما دفع كليبر خليفة نابليون باستثناء المسيحيين من الضرائب التي فرضها على جموع المصريين لكسب جانبهم وودهم، ففي فترة الحملة الفرنسية على مصر كان هناك وجوه مسيحية لها تأثير تاريخي ومن أبرز هذه الوجوه جرجس جوهري، وأنطوان أبو طاقية، ويعقوب حنا المعروف بالجنرال يعقوب، وهؤلاء وغيرهم من المسيحيين ومعظم المسلمين رأوا أن الحملة الفرنسية يمكن أن تُخلص مصر من الحُكم العثماني الغاشم وتفتح مصر على أوروبا، وأن أي حكم قادم سيكون أفضل من الموجود.
كيف تعامل "محمد على" مع المسيحيين
بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر سعى محمد على باشا إلى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية ولذلك اهتم ببناء الشخصية المصرية وأراد أن يغرس فكرة "الفخر أن يكون الإنسان مصريًا" وشجع إرهاصات القومية المصرية التي بدأت تتردد بقوة، هذه الإرهاصات كانت في الواقع ميلاد الدولة العلمانية في مصر الحديثة، وذلك لأن هوية الدولة محايدة فلا يوجد ما يسمى بالدولة الدينية، فالدولة لا تمارس طقوسًا لكنها تضم بشرًا يختلفون في الدين والطائفة والتوجه الثقافي لكنهم يجتمعون على مصريتهم بلا فارق بين أحدهم والآخر، لذا نظر محمد على إلى مصر كدولة يشارك فيها مواطنوها مسيحيون ومسلمون على قدم المساواة وأن عليه أن يعتمد على العنصر المصري في كل مشاريعه وإنجازاته وخطط دولته من أجل خلق الدولة العصرية التي يريد تحقيقها، ولقد نظر إلى جميع المصريين نظرة متوازية ليست بها تفرقة بين شخص وآخر بسبب دينه أو عرقه أو جنسيته، وطبقًا لتلك النظرة لم يرفض قط أي طلب من أجل بناء كنيسة جديدة وكأن أول حاكم يُنعم بلقب "بك" على مسيحي مصري، كما قام بتسهيل الحج للمسيحيين إلى الأراضي المقدسة.
كما يعد محمد على أول حاكمًا نفذ حكم الإعدام في مسلم قتل مسيحي في مدينة الإسكندرية رغم اعتراض الشعب السكندري. ومن هنا يتضح انحياز محمد على للدولة الحديثة في التوجه العلمي وسيادة القانون والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. ومن هنا نستطيع أن نقول إن محمد على تفوق على كثيرين من رؤساء مصر في نضرته إلى المسيحيين المصريين كمواطنين كاملي الأهلية، فكان يعين كبير المباشرين منهم لجمع الضرائب وهو بمثابة وزير المالية. وهنا يتضح الموقف المُشرف للكنيسة الأرثوذكسية عندما رفض البابا بطرس الجاولي المعاصر لمحمد على عرض روسيا لحماية الكنيسة الأرثوذكسية، وفرض الحماية على مسيحيي مصر طبقًا لمعاهدة 1774م بشكل قاطع وعندما علم محمد على بذلك ذهب إلى البابا في مقره وشكره على ما فعل فقال البابا: "لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاد تظلله وتظلل إخوانه في الوطن"، فقال محمد على وهو واقف: "لقد رفعت بعملك شأني وشأن أمتك".
أزمات السادات المتلاحقة
حمل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروعًا قوميًا جمع الشعب المصري بمختلف فئاته وخلفياته وتوحد الشعب خلف هذا المشروع، لذلك لم تكن في عهده احداث فتنة طائفية إلا قليلًا وتم علاجها بحكمة وحزم شديدين، إلا أن المشروع سقط بنكسة 1967م، وبعد تولي الرئيس الراحل أنور السادات الحكم، وفق ما يرصده الدكتور إكرام، مشيرًا إلى أن نظام الرئيس السادات بدأ مهزوزًا وشهد الكثير من المشكلات والفتن الطائفية، فعلى خلفية اتفاقية كامب ديفيد، وفي سبتمبر 1981م اصطدم السادات برموز العمل السياسي والمثقفين، كما اصطدم مع البابا شنودة وعدد من المطارنة وملأ سجونه بكل هؤلاء وهو ما أطلق عليه محمد حسنين هيكل "خريف الغضب". وبدأ الصراع بين المسيحيين والنظام أو بين السادات والبابا شنودة على وجه التحديد عام 1972م عندما طلب البابا شنودة من الأساقفة السير في مسيرة معًا حتى موقع الحدث الذي فيه صراع على أرض كنيسة مع مسلمين وألا يعودوا إلا بالأرض أو الشهادة، وفي حادثة الزاوية الحمراء قام السادات بتأليف قصة غسيل لمسيحي ألقت عليه بعض القاذورات أدت إلى حدوث فتنة طائفية، وقد استخدم وزير الداخلية النبوي إسماعيل حينها ما سُمي بالحل السياسي، إذ أغلق الحي على المتعاركين ليصفوا بعضهم بعضًا. وبعد العديد من الأحداث الطائفية التي راح ضحيتها العديد من المسيحيين انتظر البابا شنودة أن يقوم السادات بأي ردة فعل، لكنه لم يحرك ساكنًا، لذلك قرر البابا شنودة عدم حضور صلاة العيد بسبب الضحايا وطلب من الكنائس ألا تقبل المسئولين المسلمين الذين يذهبون إلى الكنائس للتهنئة بالعيد واشتاط السادات غضبًا وطلب من البابا أن يرجع عن عناده وأن يصلي، ولكن البابا أصر على موقفه وهنا اتخذ قرارًا بعزل البابا من منصبه الأمر الذي أثار مشاعر سلبية لدى الأقباط، وحاول أن يستبدل البابا بأي شخصية كهنوتية لكنه فشل.
المسيحيون وثورة يناير
وبعد رحيل السادات جثم مبارك على عرش مصر من عام 1981م حتى ثورة 25 يناير2011م، ما يقرب من ثلاثين عامًا بدأها بداية جيدة، ثم سار على منهج السادات في منح الإخوان مساحة في مجلس الشعب بحسب الاتفاق بشرط عدم الاقتراب من رئاسته وقد كان ذلك واضحًا في تأييد الإخوان لمبارك، وكان نفس الأمر بالنسبة للمسيحيين والعلاقة مع الكنيسة، إلا أنه أستخدم أمران لإلهاء الناس عن الفساد المنتشر في دولته وهما الفتنة الطائفية ودوري كرة القدم.
ومع اندلاع ثورة يناير صمتت المؤسسات الكنسية والأرثوذكسية والكاثوليكية والأنجيلية، وحاولت منع شبابها من النزول إلى الميدان شأنها شأن الإخوان لكن الشباب لم يوقفهم شيء وقد اتسم موقف البابا شنودة الثالث من مظاهرات 25 يناير بالتحفظ الشديد وقد أعتبر أن المسيحيين ليس من طبيعتهم المشاركة في المظاهرات إلا أن دورات الاحتجاج المسيحي السابقة والمتعاقبة للثورة كانت قد بلورت وعيًا مركبًا لدى الشباب والذي بات يدرك ضرورة الفصل بين الدور الرعوي الروحي للكنيسة والدور السياسي، لذلك انخرط شباب الأقباط ومنذ اليوم الأول لثورة يناير في المظاهرات، وهو ما مثل ضغطًا على الكنيسة جعلها تتدارك موقفها بعد ذلك. ومما سبق يتضح لنا أن الموقف الوطني لأبناء الكنيسة المصرية كان مشرفًا، ولكن احداث الفتنة الطائفية والتجارة بالدين لدى أصحاب الفكر "الداعشي" لم تنتهي بعد وأكبر دليل على ذلك ما نشهده هذه الأيام من موجات عنف مجوجة في محافظة المنيا، أمام صمت مطبق من الدولة التي تكتفي بدور المشاهد وكأن الأمر لا يعنيها في شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.