«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيحيون بين محبة المتن وإزعاج الهامش
نشر في البوابة يوم 24 - 07 - 2016

"أنا لا شيء إن جهلتني وشيء إن عرفتني وكل شيء إن أحببتني"، مقولة شهيرة للقديس فرنسيس الأسيسي مؤسس رهبنة الإخوة الأصاغر "الفرنسيسكان"، اختتم بها الدكتور إكرام لمعي مقدمة كتابه "المسيحيون بين الوطن والمقدس.. الدور والمصير"، والصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب، والذي يرصد خلاله الدور الفاعل للمسيحيين في بناء الحضارة العربية والإسلامية يدًا بيد مع المسلمين العرب الذين تمصروا والمصريين الذين أسلموا، مبتدئًا بتاريخ المسيحية قبل دخول الإسلام. مؤكدًا بين طيات كتابه أن روح الأخوة والمحبة كانت هي الشعور السائد بين المسيحيين والمسلمين، وأن دين الإنسانية هو الدين الذي حكم الجميع على أرض الوطن الواحد، على عكس ما نراه اليوم من فاشية وتجاوزات وأحداث عنف تجاه الأقباط على مرأي ومسمع من الدولة التي لا تحرك ساكنًا لوأد الفتنة واقتلاعها من الجذور.
ففي عام 1219 م جاء إلى مصر القديس فرنسيس الأسيسي ورغم معركة حصار دمياط الضارية إلا أنه استطاع بواسطة القوات الصليبية أن يعبر إلى معسكر السلطان الكامل الأيوبي خارج مدينة فارسكور. وقد استقبله السلطان الكامل في سماحة واهتمام وأمر بعودته سالما إلى المعسكر الصليبي وبعد هذه المقابلة أذن السلطان الكامل للرهبان الفرنسيسكان بالإقامة في مصر وممارسة دعوتهم بها كما سمح لهم بزيارة الأراضي المقدسة.
يتعرض الكتاب في فصله الأول للمسيحيين قبل الإسلام، ويطرح سؤالًا وهو، هل كان المسيحيون عرب قبل الإسلام، وماذا كان تأثيرهم في بيئتهم العربية؟!، وما مدى تفاعلهم مع الحضارات التي عاشوا في ظلها؟. وللإجابة على السؤال يُعرّج المؤلف على بداية الكتاب المقدس - "العهد الجديد" - بميلاد السيد المسيح ويسرد تاريخيًا قصة السيد المسيح وتلاميذه في الأناجيل الأربعة متى ومرقص ولوقا ويوحنا، وما جاء بسفر أعمال الرسل عن التجمع الشعبي في أورشاليم للذين آمنوا بالسيد المسيح من جنسيات متعددة اعتنقوا المسيحية، مؤكدًا أن المرجح دخول المسيحية إلى الجزيرة العربية بعد القرن الثالث الميلادي، حيث كانت شبه الجزيرة العربية تشتهر بوجود اسقفيات مسيحية على طول السواحل الشرقية والجنوبية، ويشير "لمعي" لوجود إشارات لأسماء اساقفة من الكنيسة الشرقية على طول الخليج العربي حتى أواخر القرن الثالث عشر وعلى ساحل اليمن وحضرموت حتى القرن التاسع عشر، وكانت مدينة نجران شمال اليمن تعتقد في معظمها بنظرية الطبيعة الواحدة للمسيح وفي عام 520م استشهد عدد كبير منهم على يد ذي نواس الملك اليهودي، مما أدى إلى محاولة الأحباش من اتباع لاهوت الطبيعة الواحدة أن يجتاحوا المنطقة بتحفيز من الإمبراطورية البيزنطية.
ومن هنا يمكن القول إن المسيحية كانت موجودة ومنتشرة بين القبائل الرئيسية على طول سواحل طرق التجارة وكان رجال الدين المسيحي معروفين إلا أنه لم يكن هناك مؤسسة مسيحية واضحة المعالم مثل التي كانت في العالم البيزنطي وفي مصر حتى القرن الثالث الميلادي. كما يشير إلى استقلال الكنيسة الشرقية في نهاية القرن الخامس عن القسطنطينية، والتي انشأت البطريركية الخاصة بها وقامت بدعوى إرسالية وصلت حتى بلاد آسيا، ونحو الجنوب وصلت حتى الجزيرة العربية، وهذا يوضح أن الكنيسة الشرقية كانت لها هويتها الخاصة بها مما أعطاها استقلالية واضحة بملامح محددة.
في القرن السابع الميلادي غزا الفُرس مصر ولكنهم لم يحاولوا فرض ديانتهم الزرادشتية على المصريين، ولم يستمر الاحتلال الفارسي إلا 11 عامًا وأنتهى بناء على اتفاق صلح بينهم وبين البيزنطيين وهنا فقد المصريون الثقة في البيزنطيين وحمايتهم وكانوا مؤهلين لقبول الفتح الإسلامي، ومن هنا كان دخول العرب المسلمين إلى مصر حربًا على البيزنطيين الحاكمين للبلاد أكثر منه حربًا على المصريين أهل هذه البلاد المحتلين المغلوبين على أمرهم.
المسيحيون والفتح الإسلامي
أدرك المسيحيون بعد فترة وجيزة للفتح الإسلامي لمصر أن وجود العرب بينهم سوف يكون وجودًا مستديمًا بخلاف الذين مروا عليهم من قبل، وهذا الوجود الإسلامي يتطلب منهم أن يقدموا أنفسهم للمسلمين كبشر يؤمنون بدين المسيح الذي به بعض اختلافات عن الإيمان الإسلامي، وقد اهتموا بالطريقة التي يعبرون بها لمتحدثين بالعربية لهم حضارة تختلف عن حضارتهم؛ حضارة الصحراء والشعر والقلم والبيان والقيم البدوية الأكثر محافظة من القيم الحضرية والمدنية، وقد استعانوا بالكتاب المقدس مع وضع تفسيرات له تناسب الحضارة القادمة عليهم، فكان من الأمور التي أكدوا عليها بشدة أن الإسلام دين إبراهيم الحنيف، كما رأى الكثير من المسيحيين أن الإسلام يمثل لهم تحديًا فكريًا حقيقيًا.
ولا شك أن الفتح الإسلامي لمصر كان نقطة فارقة في التاريخ الطويل لها، إذ كانت المرة الأولى التي يتغير فيها شكل مصر الحضاري بعد قرون من الخمول الحضاري في ظل الاحتلال الروماني الذي استمر قرابة سبعة قرون، وبالفتح الإسلامي صارت مصر مركزًا من مراكز صنع الثقافة العربية والإسلامية في العالم.
بعد أن تعربت مصر ودول الشرق الأوسط تغير نهجها الاجتماعي والثقافي "الدين واللغة"، وقاموا بدور رائع وواضح في العلوم والآداب والفلسفة وحوار الأديان والتواصل الحضاري. فقد حدث تغير في الهوية المصرية المدنية والحضارية، بدخول العرب بهويتهم الصحراوية البدوية وعاداتهم وتقاليدهم، حيث تمصر العرب المسلمين وتحول بعض المسيحيين إلى الإسلام وتزاوج العرب والمصريين وهكذا حدث تحول ملحوظ في تكوين الهوية المصرية، كما يرصد الكتاب دخول عنصر جديد في النسيج الاجتماعي المصري، حيث تكون نسيج ثقافي عربي إسلامي في صيغة مصرية متفردة ونتج عن ذلك إسلام حضاري مدني ومسيحية عربية لغةً وثقافةً ولاهوتًا.
استمر التفاعل بين المسلمون المسيحيون لأربعة قرون كان المسيحيون أغلبية سكانية حتى نهاية الدولة الأموية، وفي الدولة العباسية كان للمسيحيين الدور الأعظم في ترجمة العلوم والفلسفة العالمية اليونانية والسريانية إلى العربية وكان الخليفة المأمون يقدم للمترجم وزن كتابه ذهبًا تقديرًا لعلمه ولما ترجمه. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى تقدير الخلفاء المسلمين في ذلك الوقت للعلوم وأهميتها في صنع مستقبل البلاد. كما كانت تدور في قصور الخلفاء المسلمين حوارات إسلامية مسيحية.
كان المجتمع العباسي يموج بحركة حضارية اجتماعية ثقافية تعددية على مستوى البشر الذين يعيشون فيه، من هنا كان للمسيحيين العرب دور بارز ليس فقط في نقل أو ترجمة التراث اليوناني إلى اللغة العربية، والذي استخدمه المثقفون المسلمون فيما بعد في بناء الحضارة العباسية بل كانوا – أيضًا – سببًا في تشجيع وتحفيز المثقفين والحُكام المسلمين؛ لكي يناقشوا معًا كيف يكون لهذا المجتمع هوية فكرية ودينية وحضارية معنية بذاتها. في هذا الزمن البديع نشأ علم الكلام الإسلامي وهو المقابل لعلم اللاهوت المسيحي، وقد دار نقاش معاصر بين مختصين بدراسة تاريخ الفكر الإسلامي حول موعد انبثاق أو نشوء علم الكلام، كما أن التأثير المسيحي العربي الأصيل وسيرته، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإسلام العربي الأصيل ذي الخلفية المصرية الفرعونية واليونانية والفينيقية والآشورية، وهكذا تآلفت المسيحية العربية فكرًا وعملًا وأسهمت بقوة في نشأة الفلسفة الإسلامية من خلال الحوار الفقهي واللاهوتي العميق والمستنير والمنفتح ونوعية الأسئلة التي وجهها الفكر الإسلامي للمسيحية، والدفاع المسيحي عن صحة الدين المسيحي.
المسيحيون والحملة الفرنسية
شهد وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م مرحلة انتقالية في تاريخ مصر من أوضاع القرون الوسطى في الفكر والسياسة إلى انطلاقة دولة عصرية في مجال الإدارة الحديثة والزراعة والصناعة والتعليم؛ ولقد تميز موقف المسيحيين المصريين من الحملة الفرنسية برد فعل متحفظ تجاه سياسة نابليون، حيث روج نابليون لأنه قدم لمساعدة المصريين ضد المماليك وتخليصهم من الظلم الواقع عليهم لأنه يحترم الإسلام كدين وكحقيقة تاريخية. وبرر الأقباط موقفهم الرافض للحملة بأن نابليون جاء إلى مصر غازيًا ومعلنًا نفسه حاميًا للإسلام ومدافعًا عنه بطريقة مستفزة لا تنطلي على أحد. وهذا الموقف يؤكد على وحدة الصف الوطني بين المسيحيين والمسلمين ورفض الجميع لسياسة المعتدي وتدخله في الشئون الداخلية لأبناء الوطن الواحد، ولكن موقف الفرنسيين تغير تجاه المسيحيين المصريين بعد ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين، والتي شارك بها المسيحيين بقوة، مما دفع كليبر خليفة نابليون باستثناء المسيحيين من الضرائب التي فرضها على جموع المصريين لكسب جانبهم وودهم، ففي فترة الحملة الفرنسية على مصر كان هناك وجوه مسيحية لها تأثير تاريخي ومن أبرز هذه الوجوه جرجس جوهري، وأنطوان أبو طاقية، ويعقوب حنا المعروف بالجنرال يعقوب، وهؤلاء وغيرهم من المسيحيين ومعظم المسلمين رأوا أن الحملة الفرنسية يمكن أن تُخلص مصر من الحُكم العثماني الغاشم وتفتح مصر على أوروبا، وأن أي حكم قادم سيكون أفضل من الموجود.
كيف تعامل "محمد على" مع المسيحيين
بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر سعى محمد على باشا إلى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية ولذلك اهتم ببناء الشخصية المصرية وأراد أن يغرس فكرة "الفخر أن يكون الإنسان مصريًا" وشجع إرهاصات القومية المصرية التي بدأت تتردد بقوة، هذه الإرهاصات كانت في الواقع ميلاد الدولة العلمانية في مصر الحديثة، وذلك لأن هوية الدولة محايدة فلا يوجد ما يسمى بالدولة الدينية، فالدولة لا تمارس طقوسًا لكنها تضم بشرًا يختلفون في الدين والطائفة والتوجه الثقافي لكنهم يجتمعون على مصريتهم بلا فارق بين أحدهم والآخر، لذا نظر محمد على إلى مصر كدولة يشارك فيها مواطنوها مسيحيون ومسلمون على قدم المساواة وأن عليه أن يعتمد على العنصر المصري في كل مشاريعه وإنجازاته وخطط دولته من أجل خلق الدولة العصرية التي يريد تحقيقها، ولقد نظر إلى جميع المصريين نظرة متوازية ليست بها تفرقة بين شخص وآخر بسبب دينه أو عرقه أو جنسيته، وطبقًا لتلك النظرة لم يرفض قط أي طلب من أجل بناء كنيسة جديدة وكأن أول حاكم يُنعم بلقب "بك" على مسيحي مصري، كما قام بتسهيل الحج للمسيحيين إلى الأراضي المقدسة.
كما يعد محمد على أول حاكمًا نفذ حكم الإعدام في مسلم قتل مسيحي في مدينة الإسكندرية رغم اعتراض الشعب السكندري. ومن هنا يتضح انحياز محمد على للدولة الحديثة في التوجه العلمي وسيادة القانون والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. ومن هنا نستطيع أن نقول إن محمد على تفوق على كثيرين من رؤساء مصر في نضرته إلى المسيحيين المصريين كمواطنين كاملي الأهلية، فكان يعين كبير المباشرين منهم لجمع الضرائب وهو بمثابة وزير المالية. وهنا يتضح الموقف المُشرف للكنيسة الأرثوذكسية عندما رفض البابا بطرس الجاولي المعاصر لمحمد على عرض روسيا لحماية الكنيسة الأرثوذكسية، وفرض الحماية على مسيحيي مصر طبقًا لمعاهدة 1774م بشكل قاطع وعندما علم محمد على بذلك ذهب إلى البابا في مقره وشكره على ما فعل فقال البابا: "لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاد تظلله وتظلل إخوانه في الوطن"، فقال محمد على وهو واقف: "لقد رفعت بعملك شأني وشأن أمتك".
أزمات السادات المتلاحقة
حمل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروعًا قوميًا جمع الشعب المصري بمختلف فئاته وخلفياته وتوحد الشعب خلف هذا المشروع، لذلك لم تكن في عهده احداث فتنة طائفية إلا قليلًا وتم علاجها بحكمة وحزم شديدين، إلا أن المشروع سقط بنكسة 1967م، وبعد تولي الرئيس الراحل أنور السادات الحكم، وفق ما يرصده الدكتور إكرام، مشيرًا إلى أن نظام الرئيس السادات بدأ مهزوزًا وشهد الكثير من المشكلات والفتن الطائفية، فعلى خلفية اتفاقية كامب ديفيد، وفي سبتمبر 1981م اصطدم السادات برموز العمل السياسي والمثقفين، كما اصطدم مع البابا شنودة وعدد من المطارنة وملأ سجونه بكل هؤلاء وهو ما أطلق عليه محمد حسنين هيكل "خريف الغضب". وبدأ الصراع بين المسيحيين والنظام أو بين السادات والبابا شنودة على وجه التحديد عام 1972م عندما طلب البابا شنودة من الأساقفة السير في مسيرة معًا حتى موقع الحدث الذي فيه صراع على أرض كنيسة مع مسلمين وألا يعودوا إلا بالأرض أو الشهادة، وفي حادثة الزاوية الحمراء قام السادات بتأليف قصة غسيل لمسيحي ألقت عليه بعض القاذورات أدت إلى حدوث فتنة طائفية، وقد استخدم وزير الداخلية النبوي إسماعيل حينها ما سُمي بالحل السياسي، إذ أغلق الحي على المتعاركين ليصفوا بعضهم بعضًا. وبعد العديد من الأحداث الطائفية التي راح ضحيتها العديد من المسيحيين انتظر البابا شنودة أن يقوم السادات بأي ردة فعل، لكنه لم يحرك ساكنًا، لذلك قرر البابا شنودة عدم حضور صلاة العيد بسبب الضحايا وطلب من الكنائس ألا تقبل المسئولين المسلمين الذين يذهبون إلى الكنائس للتهنئة بالعيد واشتاط السادات غضبًا وطلب من البابا أن يرجع عن عناده وأن يصلي، ولكن البابا أصر على موقفه وهنا اتخذ قرارًا بعزل البابا من منصبه الأمر الذي أثار مشاعر سلبية لدى الأقباط، وحاول أن يستبدل البابا بأي شخصية كهنوتية لكنه فشل.
المسيحيون وثورة يناير
وبعد رحيل السادات جثم مبارك على عرش مصر من عام 1981م حتى ثورة 25 يناير2011م، ما يقرب من ثلاثين عامًا بدأها بداية جيدة، ثم سار على منهج السادات في منح الإخوان مساحة في مجلس الشعب بحسب الاتفاق بشرط عدم الاقتراب من رئاسته وقد كان ذلك واضحًا في تأييد الإخوان لمبارك، وكان نفس الأمر بالنسبة للمسيحيين والعلاقة مع الكنيسة، إلا أنه أستخدم أمران لإلهاء الناس عن الفساد المنتشر في دولته وهما الفتنة الطائفية ودوري كرة القدم.
ومع اندلاع ثورة يناير صمتت المؤسسات الكنسية والأرثوذكسية والكاثوليكية والأنجيلية، وحاولت منع شبابها من النزول إلى الميدان شأنها شأن الإخوان لكن الشباب لم يوقفهم شيء وقد اتسم موقف البابا شنودة الثالث من مظاهرات 25 يناير بالتحفظ الشديد وقد أعتبر أن المسيحيين ليس من طبيعتهم المشاركة في المظاهرات إلا أن دورات الاحتجاج المسيحي السابقة والمتعاقبة للثورة كانت قد بلورت وعيًا مركبًا لدى الشباب والذي بات يدرك ضرورة الفصل بين الدور الرعوي الروحي للكنيسة والدور السياسي، لذلك انخرط شباب الأقباط ومنذ اليوم الأول لثورة يناير في المظاهرات، وهو ما مثل ضغطًا على الكنيسة جعلها تتدارك موقفها بعد ذلك. ومما سبق يتضح لنا أن الموقف الوطني لأبناء الكنيسة المصرية كان مشرفًا، ولكن احداث الفتنة الطائفية والتجارة بالدين لدى أصحاب الفكر "الداعشي" لم تنتهي بعد وأكبر دليل على ذلك ما نشهده هذه الأيام من موجات عنف مجوجة في محافظة المنيا، أمام صمت مطبق من الدولة التي تكتفي بدور المشاهد وكأن الأمر لا يعنيها في شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.