هو أبو العباس أحمد المستظهر بالله ابن المقتدي بأمر الله، من خلفاء الدولة العباسية، وبويع بالخلافة في منتصف محرم سنة 487ه بعد أبيه. صفاته كان المستظهر موصوفًا بالسخاء والجود ومحبة العلماء وأهل الدين، والتفقد للمساكين، مع الفضل والنبل والبلاغة، وعلوَّ الهمّة، وحسن السيرة، وكان رضيَّ الأفعال، سديد الأقوال، راغبًا في البر والخيرات مسارعًا إلى ذلك، لا يردُّ سائلًا، وكان جميل المعاشرة لا يُصغى إلى أقوال الوشاة في الناس ولا يثق بالمباشرين، قد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعرفها وعلمها، ولديه علم وفضل كثير وفضل كبير. عن صفاته قال فيه ابن الأثير: كان لين الجانب كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس ويفعل الخير ويسارع إلى أعمال البر حسن الخط جيد التوقيعات لايقاربه إليها أحد، يدل على فضل غزير وعلم واسع، سمحا، جوادا، محبا للعلماء والصلحاء، ولم تصف له الخلافة بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب وقتل في عهده أحمد خان صاحب سمرقند المتزندق والسلطان أرغون بن ألب ارسلان وانتشرت في أيامه الدعوة الباطنية وكذلك احتلت بيت المقدس من قبل الفرنجة الصليبين ولقد قتلوا يومها 70 ألف مسلم ومسيحي ويهودي. اهتمامه بالقرآن الكريم حكى أبو طالب بن عبد السميع عن أبيه أن المستظهر بالله طلب من يُصلي به، ويُلقن أولاده، وأن يكون ضريرًا، فوقع اختياره على القاضي أبي الحسن المبارك بن محمد بن الدَّواس مقرئ واسط قبل القلانسي، فكان مكرمًا له، حتى إنه من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح، فقرأ في الرَّكعتين الأوليين آية آية، فلما سلم، قال له المستظهر: زدنا من التلاوة، فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا، فلم يزل حتى كان يقوم كل ليلة بجزء، وإنه ليلة عطش، فناوله الخليفة الكُوز، فقال خادم: ادع لأمير المؤمنين، فإنه شرّفَكَ بمناولته إيَّاك. المستظهر والحملات الصليبية واجهت الخلافة العباسية في عهد المستظهر خطرين داهمين: الخطر الأول جاء من الشرق على يد الحركة الباطنية التي صممت على مناهضة الخلافة العباسية عسكريًا وفكريًا. والخطر الثاني جاء من الغرب وقد أحدثته الحركة الصليبية التي استهدفت احتلال الشرق وتخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين. حدثت الحروب الصليبية في وقت كان فيه المشرق الإسلامي يعاني من شر الانقسامات السياسية والمذهبية، فالسلطنة السلجوقية تتصارع مع الخلافة الفاطمية المصرية، وكانت بلاد الشام مسرحًا أساسيًا لسباق السيطرة بين الطرفين، وأما على صعيد دولة السلاجقة الذاتي فالأمر كان أدهى وأمر، فقد غرق سلاطين الدولة السلجوقية بعد وفاة ملكشاه في حروب مدمرة حول عرش السلطنة، وهذه الحروب أتت على الأخضر واليابس، مما ترك المجال واسعًا أمام أعداء السلطنة في الداخل والخارج، وكانت فرصة مناسبة للصليبيين الذين سيطروا على سواحل بلاد الشام بدون مقاومة تذكر، هذا التفكك الذي أصاب الدولة السلجوقية كان من أكبر عوامل نجاح الحملات الصليبية. المستظهر والسلاجقة رغم العلاقة الحسنة التي كانت قائمة بين المستظهر وسلاطين السلاجقة فإنه لم يتمكن من تحقيق أي نوع من الاستقلال ولو في إدارة شئون مدينة بغداد الداخلية، كما أنه وقف متفرجًا أمام النزاعات العنيفة التي عصفت بوحدة البيت السلجوقي ولم ينتهز الفرصة السانحة كي يحقق لنفسه شيئًا من القوة والسيادة، إلا أن هيبته قويت في عهد السلطان محمد بن ملكشاه، واغتنم المستظهر فرصة الصفاء والاحترام القائمة بينه وبين السلطان محمد فأراد أن يوثق صلته أكثر فأكثر بالبيت السلجوقي، فأرسل سنة 502ه إلى السلطان يطلب أخته تركان خاتون الثانية بنت ملكشاه زوجةً له، فاستقبل طلبه بالترحاب وتحولت العلاقة بين السلطان محمد والخليفة إلى نوع من المحبة والمودة انعكست آثارها على حياة الناس ببغداد، رفاهية ورخاء وازدهارًا وفاة المستظهر بالله العباسي توفي الخليفة المستظهر بالله العباسي عام 512ه، وقد ولي غسله الإمام ابن عقيل وابن السُّنَّي، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل، وكبر أربعًا، ودفن في حجرة كان يسكنها، والعجب أنه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم بأمر الله، ثم لما مات السلطان ملكشاه مات بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ثم لما مات السلطان محمود مات بعده الخليفة المستظهر بالله، رحمهم الله، وكانت وفاة المستظهر بالله سادس عشر ربيع الآخر من هذه السنة (512ه) وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا