أورث أبوجعفر المنصور، ثانى الخلفاء العباسيين، ولده المهدى رعية مطيعة، وثغورًا منيعة، وأورثها المهدى إلى ولديه الهادى ثم هارون الرشيد وأورثها هارون الرشيد لأولاده الثلاثة الأمين فالمأمون فالمعتصم وأورثها المعتصم لولده الواثق، وبحكم الواثق انتهى ما يعرف بالعصر العباسى الأول، أكثر عصور الدولة الإسلامية نهضة وحضارة، وإذا توخينا الصدق لزدنا (وفقهًا وطهارة) وإذا أردنا استكمال الصورة لأضفنا وفسقًا ومجونًا، وليس فيما ذكرناه مبالغة أو سعى وراء سجع الكلمات أو طنطنة الروى، وإنما هى الحقيقة لا أقل ولا أكثر، فقد اجتمع كل ذلك معًا، ففى النهضة والحضارة يزهو عصر المأمون ويتألق فكر المعتزلة، وتزدهر الترجمات ويكفى أن نذكر فى العصر العباسى الأول من أسماء اللغويين: سيبويه والكسائى ومن أسماء الأدباء والمؤرخين والشعراء: حماد الراوية والخليل بن أحمد، والعباس بن الأحنف، وبشار بن برد، وأبونواس، وأبوالعتاهية، وأبوتمام، والواقدى والأصمعى، والفراء وغيرهم. أما فى الفقه والطهارة فهناك: أبوحنيفة ومالك، والشافعى، وابن حنبل، والأوزاعى، والليث بن سعد، وسفيان الثورى، وعمرو بن عبيد، وأبويوسف (الحنفي) وأسد الكوفى (الحنفي)، والزهرى، وإبراهيم بن أدهم الزاهد، ونافع القارئ، وورش القارئ، وأبومعاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخى الزاهد، وعلى الرضى بن موسى الكاظم، وأحمد بن نصر الخزاعى، وغيرهم، أما الفسق والمجون فأبوابهما كثيرة، وفنونهما شتى، وهناك فى البداية ما يمكن أن نسميه بالمناخ العام، وهو الإطار الذى يسمح بالفسق، ولا يستنكف المجون أو ما هو أكثر، فقد امتلأت عاصمة الخلافة بالحانات، وانتشر شرب الخمور والغناء فى مجالس الرعية، ووجد الجميع مخرجًا طريفًا لما يفعلون، فقد اشتهر عن فقهاء الحجاز إباحة الغناء، واشتهر عن فقهاء العراق من أتباع أبى حنيفة إباحة الشراب، فجمعوا بين فتوى الفريقين، ولخصوا مذهبهم فى قول الشاعر: رأيه فى السماع رأى حجازى وفى الشراب رأى أهل العراق أو فى قول ابن الرومى: أباح العراقى النبيذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر وقال الحجازى: الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارق الوازر الوزر ولعل بعض القراء يندهشون، وربما يسمعون للمرة الأولى أن أبا حنيفة قد أباح أنواعًا من الخمور، بل ولعلى أصارحهم بأن فتوى أبى حنيفة قد أجابت عن سؤال حائر كان يدور فى داخلى وأنا أقرأ عن الشراب والمنادمة فى مجالس الخلفاء: هل وصل بهم التحلل من قيود الدين، والخروج على قواعد الإسلام، أن يجاهروا بشرب الخمر فى مجالسهم، دون أدنى قدر من الحفاظ على المظاهر أمام الرعية؟ ولعل فيما عرضه الأستاذ أحمد أمين فى كتابه «ضحى الإسلام» عن خلاف الفقهاء حول الخمر، ورأى أبى حنيفة فيها ما يوضح الأمر للقارئ: (ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتًا، ففسروا الخمر فى الآية السابقة بما يشمل جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها وقالوا كلها تسمى خمرًا وكلها محرمة، أما الإمام أبوحنيفة ففسر الخمر فى الآية بعصير العنب مستندًا إلى المعنى اللغوى لكلمة الخمر وأحاديث أخرى، وأدى به اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من الأنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ وشرب منه قدر لا يسكر، وكنوع يسمى «الخليطين» وهو أن يأخذ قدرًا من تمر ومثله من زبيب فيضعهما فى إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنًا، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر والعسل. ويظهر الإمام أبو حنيفة فى هذا كان يتبع الصحابى الجليل عبدالله بن مسعود، فقد علمت من قبل أن ابن مسعود كان إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار الارتباط بين فقه أبى حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك ما رواه صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه: كان يرى حل النبيذ، حتى كثرت الروايات عنه، وشهرت وأذيعت واتبعه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم، وقال فى ذلك شاعرهم: من ذا يحرم ماء المزن خالطه فى جوف خابية ماء العناقيد؟ إنى لأكره تشديد الرواة لنافيه، ويعجبنى قول ابن مسعود كان ما سبق هو المناخ العام أو الأرضية الممهدة للغناء والشراب وما يرتبط بينهما من لهو وقيان وغلمان، أما اللهو فسمة العصر، وأما القيان ففارسهم المهدى وولده الرشيد، وأما الغلمان ففتاهم الواثق، وسوف يأتى حديث كل منهم فى موضعه، غير أننا نتوقف قليلًا أمام فتاوى الخمر السابقة متأملين، متعجبين من تشدد المعاصرين. فالبعض منهم يصر على أن عقوبة الخمر أحد الحدود، وهو فى ظنى يتجاوز الحقيقة بحسن النية، والأرجح فى تقديرنا أنها عقوبة تعزيرية، نشترك فى هذا مع رأى الشيخ محمود شلتوت وغيره، ومن الواضح فى فتوى أبى حنيفة، ومذهب ابن مسعود، أن العقوبة قاصرة على السكر البين، أما شرب القليل من أكثر أنواع الخمور فلا عقوبة عليه، وهنا يبدو منطقيًا أن تسقط عقوبة البائع والمشترى والناقل والصانع.. إلى غير ذلك مما اجتهد بشأنه المتشددون وساقوا عليه الأدلة والأحاديث، ولا بأس ما دمنا نتحدث عن المتشددين أن نذكر إصرارهم على الأخذ بالحد الأقصى للعقوبة وهو الجلد ثمانين، وهم فى ذلك يستندون إلى قياس لعلى ابن أبى طالب حين سأله عمر المشورة فقال: من سكر فقد هذى، ومن هذى فقد افترى وحده ثمانون، ومعنى هذا أن عليًا افترض أن من يسكر يفقد عقله، وأن من يفقد عقله يسهل عليه قذف الآخرين، ومن هنا يمكن أن يجلد حد القذف أى ثمانين جلدة، والغريب أننا لم نناقش هذا القياس أو نراجعه، وشاع التسليم به وكأنه تنزيل من التنزيل، بينما هو فى تقديرنا قياس أقل ما يوصف به أنه غير دقيق، فما أيسر أن نسوق على منواله أكثر من قياس وأكثر من عقوبة، دون أن يملك من سلموا بالقياس الأول أن يعترضوا علينا. فمثلًا نقول: من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه زنى، أو قتل، أو سرق، وحده الرجم، أو القتل، أو القطع، بل نستطيع أن نقول: من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه فلا عقاب عليه فيما فعل، ويسقط القياس والاستدلال من أساسه. ولعل أغرب ما لاحظناه، على عكس ما كنا نتصور، أن السابقين كانوا أكثر تسامحًا، ربما لأن الحياة كانت معطاءة، وكان اتساع أبواب الاجتهاد إحدى عطاياها، وقد سقنا فى الأمور المشتبهات رخصة التنقل بين فقه الحجاز وفقه العراق، ونسوق أيضًا ما كان منتشرًا حتى عهد أجدادنا القريب، وهو تعدد الزوجات، الذى لم ييسره الدين فقط، بل يسرته أيضًا سبل الحياة، وتوسع البعض فيه مثل الحسن بن على، الذى ذكر أنه تزوج سبعين وقيل تسعين، وإنه كان يتزوج أربعًا ويطلق أربعًا، والذى خشى الإمام على من أن يفسد عليه القبائل بطلاق بناتها، فكان يبادرهم صائحاً: يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق (تاريخ الخلفاء للسيوطى 191). ولم يسمع أحد كلامه، فقد طمع الكل أو تطلع إلى نسل ينتسب للرسول. تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعا لنا فى مثل هذه الأيام.