فى بداية التسعينيات من القرن الماضى اتعمل أول فيديو كليب رسمى أخرجه جمال عبدالحميد.. الفيديو كان عبارة عن غنوة لمدحت صالح وشريف منير اسمها «المليونيرات»، انتشرت بسرعة وبدأنا نسأل عن ملحنها.. فعرفنا أن اسمه «فاروق الشرنوبى» مكناش نعرف شكله لحد ما مدحت شلبى عمل برنامج مسابقات فى رمضان طلع فيه فاروق.. الذى فوجئنا أنه إسكندرانى دمه خفيف جدا.. ومثقف جدا.. ثم كان أن توالت نجاحاته فى أغنيات شكلها مختلف «آسف ع الأحلام.. أنا كنت عيدك.. ولا كنت يوم بنكسر.. بحلم على قدى.. نفسى.. طير فى السما».. وكان من الطبيعى أن أبحث عنه!!. كنت قد تعرفت على الحجار قبلها بسنوات.. ولما كان فاروق قد حقق معه نجاحات كبيرة، كان من الطبيعى أن أسأله عنه.. وفيما كنت أفعل فوجئت به يدخل الاستديو.. الذى خرجنا منه إلى منزله فى شارع أحمد عرابى بالمهندسين وهناك وجدت العشرات.. شعراء وفنانين تشكيليين وسياسيين عربًا ومصريين ومشايخ من بينهم رجل ضرير يأكل بشراهة ويغنى بجبروت اسمه «الشيخ سعيد». عمنا الشيخ سعيد هذا ربما تذكرونه لو قلت لكم إنه الرجل الذى شارك محمد الحلو الغناء فى أغنية يا حبى كان زمان.. طلعة الورد بأوان»، لم يتوقف طيلة خمس ساعات عن الأكل من لحوم، حلويات، فاكهة.. ولم يتوقف عن مبارزة ساخنة مع فاروق فى التنكيت على كل خلق الله.. حتى ظننت أن الرجل سيموت.. وقارب الفجر على مداهمتنا، فتذكر الشيخ أنه سيقرأ ويتبهل ويرفع الأذان من مسجد سيدنا الحسين، فانطلقنا نوصله إلى هناك. وفى طريق العودة فوجئت بفاروق يحكى لى قصته مع المشايخ، وكيف أنهم ساهموا بالكثير فى تكوينه.. مثلهم مثل شعراء وكتاب اليسار المصرى وبخاصة من قيادات حزب التجمع.. مثل الصيادين الذين عاش وسطهم لسنوات فى حلقة السمك القريبة من منزله القديم بالإسكندرية التى تذوب فى كل تفاصيله، ولا يستطيع أن يغادرها رغم استقراره فى القاهرة. جاء الشرنوبى للقاهرة مرتين.. الأولى حينما قرر أن يترك الهندسة.. ومحلا صغيرا كان قد افتتحه فى الإسكندرية.. لأنه شعر أنه فاشل فى كليهما: التجارة والهندسة.. كان يريد أن يغنى.. مثلما يفعل فى مسرحيات الثقافة الجماهيرية.. لكنه لم ينجح فى تخطى حدود «مسرح الغرفة» و«ألبوم ماستر» طبعت منه بعض النسخ كان شباب المثقفين يتداولونها فيما بينهم.. إلا أن نجاح بعض أغنيات كان قد لحنها لإيمان البحر ومدحت صالح جعله يفكر من جديد فى العودة للقاهرة.. وشجعه مدحت صالح هذه المرة وشقيقه صلاح الذى كان قد قرر الإقامة فى القاهرة أيضًا. لم يصدق فاروق فى البداية أن تلك الأغنيات التى كتبها عماد حسن.. وعوض بدوى، وبعض ما كان يغنيه لأحمد فؤاد نجم.. ومحمود الطويل.. ومحمود جمعة.. ستصل إلى الناس، كانت لغة السوق والتفاهة مسيطرتين لكن حدث ونجحت «اتمشى بين ضلوعى وأشبع من قلب جوعى، تصاحبنى فى الوطن»، وانهالت العروض على الشاب الإسكندرانى الذى لم يفكر لحظة فى المال أو المناصب.. هو فقط يلحن ويغنى ويمرح مع أصحابه.. وكل أسبوع يعود إلى الإسكندرية يقضى يوما أو يومين مع أشقائه وأطفالهم.. وأصدقاء الطفولة.. ومن الكاسيت إلى السينما، إلى المسرح.. من مصر إلى لبنان، إلى المغرب.. عشرات من المطربين الشباب والكبار يغنون ألحانه.. حدث أن نجح شقيقه صلاح أيضا، واكتسح الساحة بأغنيات وردة الجزائرية بتونس بيك وحرمت أحبك.. وأغنيات جورج وسوف - كلام الناس - وراغب علامة مغرم يا ليل.. وغيرهم.. ودخل أولاد الحلال بين الشقيقين ليفسدا الود.. وتحدث قطيعة مؤقتة، ثم تتغير أحوال ساحة الغناء، ليخرج منها كل من يغنى بجدية.. وكل من يبحث عن ذوق.. وتتراجع أسهم فاروق.. الذى ذهب لتكوين فرقة خاصة به، قدم حلقات تليفزيونية عديدة مع وجدى الحكيم فى «أوربت» وتليفزيونات عربية أخرى، ثم ترك الفرقة ليتفرغ لإعداد مطربين شباب مثل: مها البدرى وأسامة الشريف وداليا.. ثم يصيبه الإحباط ويتمكن منه ليختفى عن الساحة تماما.. يذهب إلى الإسكندرية لشهور، لا يتحدث فيها مع أحد من العاملين فى مجال الموسيقى، ثم يعود ليجرب شيئا جديدا عليه، يقرر أن يصبح ممثلا ويفعلها على «القومى»، مؤديًا لدور الشيخ إمام فى عرض كبير، لكنه لا يجد نفسه رغم ثناء كثيرين على التجربة التى يعود ويكررها فى دور تليفزيونى مع وردة الجزائرية فى آخر مسلسلاتها أوان الورد.. ثم يعود ليختفى مرة أخرى ويتفرغ لكتابة لوحات تشكيلية هو خطاط عبقرى بالمناسبة ثم يختفى ليعود ويتفرغ للتدريس بأكاديمية الفنون، وتعود شلة الحبايب مجددا لتضيء مكتبه الذى لم يكن يتوقف عن الشدو.. ويفرح كثيرا لنجاح نجله محمد الذى عرفته طفلًا وشقيقته رشا التى شاركت إيمان البحر وهى طفلة غناء «فى البحر سمكة» ثم يعود ليكتئب من جديد.. وكأنه أدمن الهجرة داخل نفسه بديلًا عن هجرته المتقطعة إلى الإسكندرية. فاروق هو الملحن الوحيد من الذين عملت معهم لحن لى ألبوم على الحجار «رمى رمشه» كاملا وعشرات من الأغنيات لآخرين لا يتعب وهو يلحن.. لا تشعر أنه يبذل جهدا.. هو فقط يقوم بكتابة الكلمات أولًا على ورق أبيض بقلم رصاص بخطه الجميل.. ثم ينظر لها ويبدأ.. وكلها دقائق ويكون اللحن جاهزا.. شاهدته يفعل ذلك فى: مكتوبالى وخدنى وخد من عينى.. وعم بطاطا لذيذ ومسعل.. وعشرات من الأغنيات، وإذا ما غنى لحنا لغيره من أساتذته الموجى.. أو الطويل أو بليغ الذى كان يحبه بشكل شخصى، تشعر وكأنه يلحن هذه الأغنيات من جديد.. كأنه يسافر فيها.. حتى ولو كان الأمر متعلقا بأغنية كوميدية مثل أغنيات «حزمنى يا.. أو المليونيرات» أو «عدينا يا روقة»، ويبدو أن أغنيته الأخيرة كانت سفرًا طويلًا فى عزلة اختيارية أظن أنه لم يقررها يومًا.. هجرة شرعية فرضت عليه «فخدها بالرضا مش بالغصب».. لكنه أوحشنا كثيرًا.