تحبس أنفاس كل من يراها، مستقرة محتفظة بروعتها لآلاف السنين تحت المياه، فى تحد واضح لكل عوامل الطبيعة فوق الأرض وتحت الماء، قصر كليوباترا الغارق شاهد على ذلك، المنازل والأعمدة والتماثيل والمعابد والجداريات كلها حية تتحدى كلمة غرق.. على امتداد شواطئ الإسكندرية تقبع الآثار المصرية الغارقة. تبدأ حكاية إحياء «التاريخ الغارق»، القادم من عمق التاريخ، وجمع أشلائه من كل حضارات مصر، ليس الفراعنة فقط، ولا الرومان وحدهم.. كلهم مرّوا من هنا. عندما قرر المسئولون -مطلع 2007- إخراج الآثار الغارقة من الإسكندرية للعالم، كانت مبهرة بالنسبة إليهم، وبالنسبة لمن استضافها، وطاف بها حول أوروبا وأمريكا لتستقرّ فى بطن لندن. أولاند استقبلها عاجزًا عن الردّ، وقف مدهوشًا لما رآه، وكانت صورته -التى أبرزتها وكالات الأنباء- شاهدًا على ذلك. ليس أولاند وحده.. العالم كله يقف مندهشًا أمام «تاريخ مصر».. مسرح دهشة كل من اقترب ورأى. فيما افتتح الدكتور خالد العنانى، وزير الآثار، أمس الثلاثاء، الانطلاقة الثانية للمعرض بالعاصمة البريطانية، وسط ترتيبات أمنية واستقبال حافل يليق بما سيتم عرضه أمام كبار الشخصيات العالمية. «البوابة» تسلط الضوء بشكل كامل على معرض الآثار الغارقة من جميع جوانبه، وتبرز أهم القطع المعروضة به، وقصة «أسطورة أوزيريس». رسالة سلام من مصر يحمل المعرض «رسالة سلام» من مصر للعالم، حيث إن اسم «أوزيريس» مرتبط فى الحضارة المصرية القديمة بإحياء السلام. ويضم 293 قطعة أثرية تم اختيارها من عدد من المتاحف المصرية، وهى متحف مكتبة الإسكندرية والمتحف اليونانى الرومانى والمتحف البحرى والمتحف القومى بالإسكندرية والمتحف المصرى. القطع الأثرية التى يضمها المعرض تحكى أساطير الإله أوزيريس وأسراره التى تعد من أهم الأساطير الدينية فى مصر القديمة، ويأتى من بينها تمثال صغير من البرونز لأحد الفراعنة -عثر عليه فى هيراكليون- أبو قير، يبلغ ارتفاعه حوالى 20.5 سم، منحوت بدقة عالية، وقد تم اكتشافه فى الجهة الغربية الجنوبية من معبد آمون جرب فى هيراكليون. ويظهر التمثال وهو واقف يرتدى التاج الأزرق والنقبة المعتادة «الشنديد الملكى» متخذا وضع المشى، يمسك عصا فى يده اليمنى، ويعتقد أن يكون هذا التمثال لأحد ملوك الأسرة الثلاثين أو ربما هو الملك «بسماتيك الثانى» من الأسرة السادسة والعشرين، وذلك وفقا للكتابات الموجودة داخل الخرطوش الموجود على الحزام، تمثال للإلهة «تاورت» من عصر الأسرة السادسة تظهر فيه الإلهة على هيئة فرس النهر واقفة تستند إلى كفوف الأسد، وتميمة على هيئة عين حورس «الأوجات» من العصر البطلمى من حفائر هيراكليون، خليج أبوقير. أوزوريس في فرنسا انطلقت أولى فعاليات المعرض من باريس فى سبتمبر الماضى، وحضر الافتتاح الرئيس الفرنسى فرانسو أولاند، ووزيرة الثقافة والإعلام فلور بيلران، ووزير الدولة الفرنسى للشئون الأوروبية هارليم ديزير، ورئيس معهد العالم العربى جاك لانج، ورئيس متحف اللوفر جون لوك مارتينيز. ومن الجانب المصرى حضر عدد من الوزراء المصريين على رأسهم وزير الخارجية سامح شكرى نيابة عن الرئيس عبدالفتاح السيسى، ووزير الآثار السابق الدكتور ممدوح الدماطى، ووزير السياحة السابق المهندس خالد رامى، وسفير مصر بفرنسا السفير إيهاب بدوى، ونخبة من الشخصيات البارزة فى عالم السياسية والثقافة، والمهتمين بالآثار من مختلف دول العالم . وألقى «أولاند»، كلمة أعرب فيها عن التزام فرنسا بالدفاع عن التراث الثقافى العالمى والتصدى لمحاولات محو الماضى المشترك للشعوب، مؤكدًا ثبات موقف فرنسا فى تقريب الحضارات، وإعادة اكتشاف التراث الجماعى، وتعزيز الثقافة المشتركة من خلال تنمية وتقاسم العلم والمعرفة. وقال وزير الخارجية سامح شكرى، فى كلمة ألقاها نيابة عن الرئيس عبدالفتاح السيسى فى افتتاح المعرض، إن انعقاد هذا المعرض يأتى تجسيدًا للصداقة الفرنسية المصرية على مر العصور، وتعبيرا عن العلاقات المتميزة التى تربط بين البلدين على المستويين الشعبى والرسمى، مشيرا إلى أن المعرض يأتى فى وقت مهم. إله الحساب يحاكم الجميع هو إله البعث والحساب ورئيس محكمة الموتى عند قدماء المصريين، ومن آلهة التاسوع المقدس الرئيسى فى الديانة المصرية القديمة، فطبقا للأسطورة الدينية المصرية القديمة كان أوزيريس أخا لإيزيس ونيفتيس وست، وتزوج بإيزيس، وأبوهما هما جب إله الأرضو، ونوت إلهة السماء. وتبدأ الأسطورة عندما قتله الشرير ست أخو أوزيريس، بعد وضعه فى تابوت، ومن ثم إلقائه فى نهر النيل، وقطع أوصاله ورمى بها إلى أنحاء متفرقة من وادى النيل، وعندها بكت إيزيس وبدأت رحلتها بحثا عن أشلاء زوجها، وفى كل مكان وجدت فيه جزءا من جسده بنى المصريون المعابد مثل معبد أبيدوس الذى يؤرخ لهذه الحادثة، وموقع المعبد أقيم فى العاصمة الأولى لمصر القديمة أبيدوس، حيث وجدت رأس أوزيريس، وفى رسومات المعبد الذى أقامه الملك سيتى الأول أبورمسيس الثانى الشهير تشرح التصويرات الجدارية ما قامت به إيزيس من تجميع لجسد أوزيريس، ومن ثم عملية المجامعة بينهما لتحمل ابنهما الإله حورس الذى يتصدى لأخذ ثأر أبيه من عمه، وبسبب انتصاره على الموت وهب أوزيريس الحياة الأبدية والألوهية على العالم الثانى. وكان تصور المصرى القديم أن حورس سوف يأتى بالميت بعد نجاحه فى اختبار الميزان، ويقدمه إلى أوزيريس، ويُعطى ملبسا جميلا ويدخل الحديقة «الجنة». الآثار الغارقة.. من أين؟ وإلى أين؟ تعود بداية اكتشاف آثار مصر الغارقة تحت الماء إلى عام 1910، إذ كان مهندس الموانئ الفرنسى فرانك جوديو مكلفًا بإجراء توسعات فى ميناء الإسكندرية الغربى، واكتشف حينها منشآت تحت الماء تشبه أرصفة الموانى غرب جزيرة فاروس. وفى عام 1933، تم اكتشاف أول موقع للآثار الغارقة فى مصر، وذلك فى خليج أبى قير شرق الإسكندرية، وكان مكتشفه طيار من السلاح البريطانى، وقد أبلغ الأمير عمر طوسون الذى كان معروفا بحبه للآثار، وكان عضوا بمجلس إدارة جمعية الآثار الملكية بالإسكندرية فى ذلك الوقت. وبدأ التعرف على آثار الإسكندرية الغارقة بمنطقة الحى الملكى فى عام 1961 عندما اكتشف الأثرى الراحل، كامل أبوالسعادات، كتلا أثرية غارقة فى أعماق البحر بمنطقة الميناء الشرقى أمام كل من لسان السلسلة وقلعة قايتباى. وتم الكشف عن مجموعة كبيرة من هذه الآثار فى عام 2000 فى مدينة «هيراكليون» الغارقة التى اكتُشفت عام 2000 بواسطة المستكشف الفرنسى «فرانك جوديو» Franck Goddio، وكذلك فى منطقة شرق كانوبس التى اكتشفها جزئيًّا عمر طوسون عام 1934، ثم أعادت بعثة المعهد الأوروبى اكتشاف الموقع. وفى عام 2001 أعلنت البعثة المصرية- الفرنسية المشتركة، بخليج أبو قير بالإسكندرية عن الآثار الغارقة، عن اكتشاف مدينة أثرية مهمة فى قاع البحر على بعد 6 كيلومترات من ساحل الخليج ترجع للعصر البطلمى، وتشير دلائل إلى وجود مدينة «هيراقليوم» الإغريقية بالموقع. وحتى الآن لم يتم انتشال سوى 40٪ فقط من تراث مصر الغارق، على الرغم من مرور ما يقرب مائة عام على اكتشاف هذه الضروح الضخمة التى بنتها الفراعنة بداية من الأسرة الثامنة عشرة، وما تبعها من حضارات متعاقبة على مصر.