فى ظل الأجواء الملتبسة والمرتبكة التى تحيط بالمنطقة العربية، وما تحويه تلك الأجواء من تعقيدات دولية وتشابكات إقليمية، لم يكن أمام المحسوبين بحكم الأعمار على جيل الشباب فى الأقطار العربية على امتدادها الجغرافى، سوى التمرد على رتابة الواقع، بكل إشكالياته السياسية ومكوناته الفكرية، تبلور مفهوم التمرد فى ظاهرتين، إما بإعلان الغضب فى صورة احتجاج عشوائى غير مسئول، أو التعبير بالرأى عبر الخروج من الدوائر التقليدية الضيقة، سواء بالإبداع وإطلاق العنان للخيال المهموم بقضايا الشأن العام، أو بقراءة المشهد من زوايا نقدية مختلفة، زوايا مشحونة بالتصورات الحالمة، لوأد محاولات العبث بالمنطقة، والتصدى لكل ما يدور فى كواليس السياسة الدولية، من مؤامرات استخباراتية ومخططات استراتيجية.. لذا لم يكن غريبًا أن يصبح التعلق بأحلام القومية العربية، ضرورة لإنعاش الذاكرة، وطرح الأفكار غير التقليدية، وسيلة إبداعية للخروج من المأزق الراهن. فى هذا السياق قفزت على السطح بعض التصورات المعبأة بالتفاؤل، رغم اليقين بعدم تحققها على أرض الواقع، إلا أنها تصورات تستحق الوقوف أمامها والثناء عليها والحفاوة بها، بل واعتبارها حجرًا ألقى فى بحيرة المياه العربية الراكدة، وإن لم ينتبه إليها العامة، فعلى الأقل سيكون لها تأثير عميق فى دوائر النخبة السياسية، التى أحجمت عمدًا منذ ما يزيد على أربعين عامًا عن مواجهة الأنظمة الحاكمة بأسباب هزائمها السياسية، أو تحفيزها على الاستيقاظ من غفوتها. من بين الرؤى التى أثارت جدلًا نخبويًا، طرحها شاب فى مقتبل العمر، إلا أنه تمرد بطريقته على القوالب الفكرية الجامدة والتصورات الشبابية السطحية التى تنساق وراء تشويش مواقع التواصل الاجتماعى، وراح يستدعى من المؤلفات، والنظريات السياسية والأفكار الأيديولوجية، وانطلق منها كمرجعية معرفية، لكن برؤية خاصة، هذه الرؤية استطاع أن يرصدها «عمر ثروت» فى كتاب صدر له مؤخرا، بعنوان «البيان القومى» متضمنًا مقدمة بها حفاوة من الكاتب والأديب «يوسف القعيد»، وإن لم يكن متفقا معها من الناحية الواقعية، المؤلف فى تمهيده لكتابه، لم يدع أنه محسوب على فئة الكُتّاب المخضرمين، أو أنه باحث فى الدراسات السياسية أو متخصص فى الشأن الاستراتيجى، بل يؤكد أن ما تضمنه كتابه هو رؤية أو بيان عبر عنه بالقول «قد يكون هذا البيان حلمًا كبيرًا، والأحلام الكبيرة كانت وما زالت هى النواة لأعظم الإنجازات التاريخية فى الحقل الاجتماعى السياسى، وقد تعلمنا من التاريخ، أنه لا يوجد مستحيل فى قاموس الأمم ذات الإرادة والهمم العالية، أيًا كانت التحديات، فمهما بعث الواقع السياسى من الإحباط، فلا يجب أن ينخفض سقف الآمال والطموحات». القراءة الدقيقة لمجمل أطروحاته، وما أورده من تفاصيل بين دفتى كتابه، تشير إلى امتلاكه أدوات الغوص والإبحار بمهارة فى أعماق ضرورات الأمن القومى العربى والتحديات التى تواجه المنطقة، وطبيعة الصراع العربى الصهيونى، فضلًا عن تعريته للدور الذى تلعبه الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا فى تذكية الخلافات بين أنظمة الحكم العربية، وإثارة الفتن المذهبية والنعرات العرقية، وانعكاس تلك الصراعات على الواقع، مسترشدا بالعديد من المراجع والكتابات المبنية على أسس أيديولوجية، بهدف تعميق درايته بالإشكاليات التاريخية، وما يحاك من مخططات لتلك المنطقة من العالم. مثل بحار ماهر غاص المؤلف فى أعماق الواقع العربى بكل مفرداته، حيث استطاع أن يرصد بحرفية؛ انعكاسات التمزق على الأوضاع العربية الراهنة، فضلا عن براعته فى قراءة جوهر الوثائق التاريخية، والمراجع البحثية والمراسلات السرية، التى مهدت الطريق لصناعة ورم سرطانى فى الجسد العربى، كاشفا عن المعانى الحقيقية والدلالات الموضوعية لصناعة وطن لليهود على جثة الجسد العربى، فهو يستعرض جملة من الحقائق التاريخية عبر قوله «إن المشروع الصهيونى، هو مشروع غربى بامتياز، فالمشروع نبت فى الغرب، والغاية منه خدمة مصالح الغرب، والداعم لوجوده هى القوى الغربية، حتى الفكر الصهيونى من رحم الحضارة الغربية، فالمشروع الصهيونى هو حلقة من حلقات الصراع الحضارى الأشمل ما بين الشرق العربى والغرب». ففى عرضه لرؤيته المنطلقة من البحث عن ضرورات المواجهة فى المرحلة القادمة، بهدف الحفاظ على الأمة العربية، حرص المؤلف على نقل وجهة نظره بعيدًا عن القوالب الفكرية التقليدية، وآثر أن يحمل نتاج مجهوده عنوانًا، يتسق مع رؤيته «الوفاق القومى»، بما يواكب اهتمامات الشارع المصرى والنخبة الواعية على المستوى العربى، لذا نجد أنه عزف عن الإسهاب فى الإشكاليات المرتبطة بالسياسات الداخلية لأنظمة الحكم، رغم أنها محور مهم، عكس بوضوح حالة من الصدام مع مكونه الفكرى والثقافى، خاصة أن سطور الكتاب كانت كاشفة عن حقيقة هذا الصدام، الذى بدا موضوعيًا، فى إطار سرده للواقع وإلقاء الضوء على عقلية تلك الأنظمة، وكيف كانت هذه الأنظمة شاهدة على نفسها قبل أن يشهد عليها التاريخ، باعتبار أن تلك الأنظمة كانت وما زالت اللاعب الرئيسى، فى مشروع تمييع مفهوم الانتماء القومى العربى، لدى المكونات المجتمعية فى البلدان العربية، مقابل تعميق الغلو فى الوطنية القطرية والانعزالية. رؤية «عمر ثروت» تلخصت فى أن الظرف التاريخى الراهن يفرض على الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، خيارين لا ثالث لهما، إما الانسياق وراء سياسات الأنظمة الحاكمة التى رسخت لتحلل الأمة العربية، بما يجعل مصيرها إلى زوال، والدفن فى مقابر الأمم الغابرة، وإما أن يتحول الوطن العربى إلى دولة الوحدة التى تمتد بالتوازى مع امتداد الأمة العربية، بما يجعلها قادرة على التعبير عن إرادة وجودها والإمساك بزمام مستقبلها، لأن بها من المقومات ما يؤهلها للذوبان والانصهار فى بوتقة واحدة، وهذه المقومات تتضمن التجانس العرقى، القومى، الدينى.. إلخ. لا يوجد خيار ثالث. فالهجمة خطيرة والديناصورات العالمية، تتكالب علينا، فلا مجال لدفن الرؤوس فى الرمال، كما يرى أن لمصر العربية دورها التاريخى، كما كان دائمًا فى مواجهة التحديات، فإن لم تحتل الفراغات وتملأ الثغرات فى الجسد العربى بنفسها، فسيزحف إليه التآكل وينال منه وهذا كله يزيد فى التأكيد أن المعركة الحقيقية تبدأ من مصر. يرى المؤلف أن ضعف الشعور بالانتماء القومى العربى، تقف وراءه أسباب حددها، فى فقدان الأمل من قيام الوحدة العربية، إلى جانب غياب المفكرين من دعاة القومية، ممن لديهم القدرة على تجديد الفكر والخطاب السياسى القومى، ويحدثون حراكًا نحو هذا الاتجاه، ورغم قناعة المؤلف بتلك الحقائق، إلا أنه تعلق بما أنتجته مخيلته من رؤى وأطروحات، لاستعادة الحيوية والعنفوان للشعور بالانتماء القومى، وهذا ليس استنتاجًا مبنيًا على طموحات واهية من وجهة نظره، بل هو تدبر للعديد من الشواهد فى الواقع، فبالرغم من كل التشويش السياسى والإعلامى، إلا أنه حينما يشتد الهجوم على أى شعب عربى فى أى قطر، تظهر الغصّة فى قلوب أغلبية الجماهير العربية، ويصاحبها شعور بالإحباط والغضب الجم على أنظمة الحكم العربية، خاصة فى أعقاب الهجمة الغربية الشرسة، التى ساهمت أجهزتها فى ابتكار أساليب جديدة لتجزئة الأقطار بهدف هدمها، وإحكام قبضتها على مواردها وثرواتها، عبر بسط نفوذها على خطوط المواصلات البحرية والبرية والجوية إلى آسيا وإفريقيا، وهى ذات الخطوط التى يحتل الوطن العربى الموقع المركزى فيها، حيث جرى إخضاعها لقوى عملت على إرهابها وتهديد استقرارها، لهذا كان التفكير فى بناء منظومة إقليمية تضمن، وفق رؤية المؤلف، استمرارية الوضع القائم بعد التجزئة، لتحقيق الأهداف المنشودة وترتكز هذه المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية، على الأنظمة العربية ذاتها.