«كل قديم جديد وطازج ومختلف بشكل أو بآخر، إذ ليس كل ما طواه الزمن صار من التاريخ، أو بات مهملا، ربما هو فقط مسكوت عنه، لسنة أو بضع سنوات، أو ربما عقود عديدة». يمثل ذلك الاقتباس لُب فلسفة الكتاب الأحدث «نواب الله» للشاعر والكاتب الكبير أحمد الشهاوي، الذى فيه يقدم تَطْواف فى دنيا التشدد والعنف، حيث يشكلان الملمح الأبرز على الساحة السياسية العربية والإسلامية اليوم. محاولة الشهاوى جاءت تحقيقا لأهداف عدة، أهمها أولا معرفة جذور تلك الآفة التى ألصقت بالصفة الإسلامية والعربية، والتى هى أبعد ما يكون عن لب الإسلام الحقيقى المحرض على الحياة والحب والرحمة والإعمار، وليس التدمير والحرق والقتل تحت شعار دينى ممن يَلْبَسون المسوح الإسلامية، ويُلْبِسون على الناس دنياهم وآخرتهم، مدعين أنهم «نواب الله». يفاجئنا الشهاوى فى «نواب الله» أحدث إصداراته، البعيد كليا عن الفضاء الشعرى التقليدى، بإنتاج علمى محكم لا يعتمد على السرد فقط، بل هو زاخر بالأسانيد الفقهية والتاريخية التى يمكن لأى باحث العودة لها، محللا إياها فى سياقها التاريخى الفكرى دون اجتزاء. الشهاوى لم يقتصر على ذلك السرد فقط، بل نجده فى أجزاء كثيرة يقفز بالقارئ ليربط الماضى بالحاضر، وليُدَلل على أن العنف الآنى الحالى ليس إلا وليد ميراث تاريخى دموى مُقْصى فى محاولة منه لنَكْء الجرح بهدف التطهير والتطهر بنار الاعتراف لنتمكن من خلق ثقافة جديدة. فى «القتل نيابة عن الله» و«التكفير بالسماع» يستحضر الشاعر القضايا الحالية للمشهد المصرى الذى يتطابق مع أغلب الدول العربية، منها قتل الإنسان للإنسان لمجرد الاختلاف المذهبى وليس الدينى الذى حدث فى فترة حكم الإخوان تحت سمع وبصر نظام الإخوان الحاكم وقتها، دون أن يهتز جفن لأى مسئول. يتناول المؤلف قضية الرقابة ومدى أهميتها من عدمه، لينتصر لقاعدة أن الأفكار لا يمكن أسرها، فهى عطر سيفوح حتما حتى مع انكسار زجاجتها. علاوة على أن الحرية.. حرية الفعل وعدم الفعل هى الأمانة التى بموجبها يصير الحساب كما قال المولى عز وجل «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ»، فالحرية نور طارد لخفافيش الظلام، وهو ما يحاول الجميع القضاء عليه اليوم. لم ينس الشهاوى أن يتعرض لخصوصية الثقافة المصرية الأصيلة القابلة والحاضنة للتعدد وقبول الجميع، ولست أقول «الآخر» لأنه تعبير إقصائي؛ فى نهاية بديعة لتصبح مسك الختام فى مقابلة ما بين ثقافة رملية مقْصية، وما بين ثقافة نهرية عاشقة للحياة مقدرة للموت فى ذات الوقت، باعتباره مرحلة جديدة من مراحل الحياة، فنجده ينهى «نواب الله» : (إن ما يعصم المصرى هو الوازع الدينى والأخلاقي، إذ هو القانون الحقيقى الذى يسيره، وبه يلتزم، ويقِيه من الخطأ والخطيئة، لأنه بطبيعته –منذ القدم- يخشى حساب الآخرة) فى سياق لغوى بديع أقرب إلى الشعر، قدم الشهاوى للقارئ المصرى والعربى كتابه التحليلى «نواب الله» ليدفع عن المولى عز وجل شبهة أن يكون له نواب، فهو «هو» مُنْزل الدين وحافظه، وهو فى غنى عن مدعى «النيابة».