نحتفل هذه الأيام بذكرى ميلاد السيد المسيح، وكثيرًا ما يركز البعض على النواحي السعيدة والمعجزية في قصة ميلاد يسوع المسيح. إذ تتحول أحداث قصة ميلاد المسيح رغم صعوبتها وقساوتها إلى أحداث أفراح ومعجزات إلهية، وهذا ما تبينه المسيحية والإسلام، ولذا يتم التركيز على الدور الإلهي في حماية السيدة العذراء مريم بدلًا من التركيز على المشكلات التي واجهتها من المجتمع الذي تعيش فيه، وبدلًا من التركيز على الصعوبات التي واجهت المسيح في طفولته، يتم التركيز على الآيات والمعجزات التي صنعها الله، ولكننا نجد أن إنجيل متى في فصله الثاني على سبيل المثال، ينفرد بذكر بعض الأحداث المتشابكة التي تلت ميلاد يسوع المسيح. أولها قصة لجوء العائلة المقدسة لمصر، والتي تبدأ بمجيء مجموعة من مجوس المشرق لأورشيلم بعدما رأوا نجم المسيح كمَلِك مستقبلي. وحين أتوا لأورشليم، جاءوا للمَلِك هيرودس الكبير، معتقدين أن المَلِك الصغير مولود على الأرجح في قصر المَلِك الكبير. وحين سألوا هيرودس، اضطرب واضطربت معه كل أورشليم. فهيرودس مهوس بالسلطة. وقد سبق وأمر بقتل زوجته المحبوبة، وبعضًا من أولاده. لذا اضطربت معه كل أورشليم لأنهم أيقنوا أن هيرودس سيبدأ سلسة جديدة من القتل للحفاظ على ملكه. وجمع هيرودس رؤساء الكهنة والكتبة ليعرف أين يولد المسيح. وعرف أن الطفل سيولد على الأرجح في بيت لحم. ومن هنا عقد هيرودس اجتماعًا سريًّا مع المجوس؛ وأخبرهم برغبته في الذهاب لهذا الملك الصغير بعدما يتحققوا هم من الأمر. وبعدها ذهب المجوس ليسوع المسيح، وسجدوا له احترامًا، وقدموا له الهدايا تقديرًا. ولكنهم لم يعودوا لهيرودس؛ بل عادوا لبلادهم مباشرةً. وفي نفس الوقت، قرر يوسف ومريم بإرشاد من الله أن يهربا بالطفل لاجئين إلى أرض مصر. ويحاول البعض وصف لجوء العائلة المقدسة لمصر على أنه زيارة أو نزهة في أرض مصر، لكن الأمر ليس كذلك. ففي أحسن الأحوال، سيكون لجوء العائلة المقدسة لأرض مصر محفوفًا بالصعوبات والتحديات والمخاطر. فمن الأكيد أنهم سافروا في الصحراء بصقيعها ليلًا وقيظها نهارًا، وفي دروب صعبة لا ماء فيها. ومن الأكيد أنهم تركوا الوطن بمن فيه من أصدقاء وعائلات وممتلكات ليعيشوا غرباء في أرض مصر. والسيناريو الأسوأ، يكون باضطرارهم للترحال في أرض مصر أكثر من مرة للهروب من المشكلات الاقتصادية أو للحفاظ على أمنهم وسلامتهم. ويعكس هذا حال الأطفال العرب اللاجئين لبلدانٍ منها مصر. ففي أحسن الأحوال نزح اللاجئون، تاركين أوطانهم وأصدقاءهم وممتلكاتهم؛ ليعيشوا في بلد آخر. وفقدوا أشياء غالية عليهم، وربما فقد بعضهم حياته أثناء الترحال. فكيف نرى الامتياز الذي وهبه الله لبعضنا بألا نكون لاجئين؟ وما هي مسئوليتنا تجاه أمثال العائلة المقدسة في أرضنا في هذه الأيام؟ وثانيها القصة التي يسردها متى عن ذبح أطفال بيت لحم الأبرياء. إذ اعتبر الملك هيرودس عدم عودة المجوس سخرية منه، ولهذا غضب جدًا، وأمر بقتل كل الأطفال الصبيان، الأقل من عامين، ببيت لحم والمناطق المحيطة بها. وهو بهذا الفعل، أعتقد أنه تخلص من الملك الصغير، يسوع المسيح، الذي قد ينافسه في المستقبل على السلطة. وبعض الروايات عن قصة الميلاد تحاول تجميل الأمر بقول إنه حين ذهب الجنود لقتل الأطفال الصبيان لم يجدوا أطفالًا في هذا السن الصغير. ولكن هذه الصورة لا تتوافق مع ما تقصه لنا حكاية متى: "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ." فباقتباس متى لقول النبي إرميا، إشارة لدموية ما حدث في بيت لحم في عصر المسيح من قتل للأطفال الأبرياء مثلما حدث في أيام إرميا. وهذه الدموية التي تتمثل في نزع صبي رضيع من حضن أمه وذبحه أمام عينيها. والدافع الرئيس لدموية هيرودس هو أنه يريد الاحتفاظ بالسلطة السياسية. وهذا ما قاده للتخلص من أي شخص يمكن أن يشكل تهديدًا لمُلْكِه حتى لو كان طفلًا. فمذبحة الأطفال الصبيان في بيت لحم يعتبرها المؤرخون أقل مذابح هيرودس دموية، على الأقل من حيث العدد، فيقدر عدد الأطفال الذين ذبحهم بنحو 20 طفل؛ بينما نجده قد صنع العديد من المذابح الدموية الأكبر من هذا بكثير في حياته فعلى سبيل المثال: قد ذبح مدن للحشمونيين بأكملها في حربه معهم؛ وفي نهاية حياته وهو على فراش المرض قرر أن يقتل كل وجهاء أورشليم بما فيهم أعضاء السنهدريم ساعة موته لكي تحزن أورشليم عندما يموت. ولا يجب أن ننسى أن التاريخ البشري والواقع العربي به بعض أمثال هيرودس. فأمثال هيرودس لا يهتمون سوى بسلطتهم ومظهرهم السياسي؛ ولا يكترثون ببشرية الآخرين. فيهدمون الآخر، لإثبات وجودهم؛ ورؤيتهم تدمير الحضارة، لكيلا لا توجد حضارة سواهم؛ ورسالتهم إفزاع العباد، ليكونوا مواليين لهم. وهؤلاء حولوا الحياة جحيمًا؛ وسعادة الولادة حزنًا؛ وخير الأرض قحطًا؛ وسلام الإنسان حربًا. حولوا بلادنا إلى مشكلة. ورغم قتامة الصورة، ينقل لنا الإنجيل على الفور خبر موت هيرودس، الذي كان السبب الرئيس في المأساتين السابقتين. وواضح، أن الإنجيل يريد نقل رسالة هامة وهي: أن الضيق والحزن ليسا نهاية المطاف، بل هما ظروف مؤقته؛ وأن الأشرار بشرهم لن يستمروا، بل سيذهبون بشرهم للموت والنهاية. ويشهد التاريخ بعصوره المتعاقبة خير شهادة على أن الملوك والرؤساء الأشرار لم يخلدوا للأبد. فهيرودس الكبير مات، وبقي الطفل الصغير الذي كان يريد قتله. والأباطرة والحكام الجبابرة الذين اضطهدوا الكنيسة في العصر الروماني، زالوا؛ واستمرت الكنيسة الوليدة. والملوك والرؤساء الأشرار الذين حكموا بلادنا العربية، أُسقطوا وعُزلوا؛ وستبقى بلادنا. والإرهابيون الذين يرهبون أوطاننا، ويذبحون أبنائنا؛ سينتهون. فلابد في النهاية أن تكون النصرة رغم الضيقات لطفل الله، لأبناء الله، لإنسان الله. ويزف الإنجيل خبر عودة اللاجئين بعد خبر موت هيرودس. فالمسيح وعائلته بعدما سمعوا خبر نهايته، قرروا العودة لوطنهم. وحين عادت العائلة، وجدت ابن هيرودس، والذي كان بدموية أبيه. فحين ملك قامت ضده ثورة كبيرة؛ ولكي يخمدها قتل ما يقرب من 3000 رجل. ولهذا السبب قررت العائلة المقدسة ألا تعود لبيت لحم؛ بل أن تذهب للناصرة التي كانت تحت حكم ملك آخر، أكثر تسامحًا. فمن الأكيد، أن اللاجئ الوطني لا يحب الاغتراب عن وطنه، حتى لو كان هذا الوطن حفنه رماد. وبهذه النهاية المنيرة، يختم إنجيل متى قصة الميلاد التي تعطينا الرجاء في حالنا بهذه الأيام. فرغم لجوء الكثير من المواطنين العرب، ورغم ذبح الأبرياء؛ إلا أن الرجاء يكمن في أن هذه الظروف ستنتهي، وأن الأحوال ستتبدل للأحسن. ففي قصة الميلاد نرى المسيح وعائلته وأقاربه وأصدقاءه يتجرعون معاناتنا، ولكنهم في النهاية يعطونا الأمل بتحسن حال الوطن في الغد. وفي النهاية أقدم التهنئة بعيد الميلاد المجيد للجميع، مصليًّا أن يملأ الله قلوب جميعنا بمسرة الرجاء والسلام في ذكري ميلاد المسيح.