منذ أكثر من ألفى عام تقريبا ولد السيد المسيح، ويوم ميلاده سبحت الملائكة معلنة السلام والمسرة. وبشرت بأنه قد ولد المخلص. إلا أن هذا الطفل الذى أتى ببشارة السلام للعالم لم يجد السلام فى عالمنا، إذ كان مهددا بالقتل من قبل ملك طاغية. فاضطر السيد المسيح بالهروب لاجئا إلى مصر. ومثلما هرب الطفل يسوع لاجئا يهرب اليوم أطفال كثيرون، إلا أن أول صورة تتبادر لذهنى هى صورة الطفل «إيلان الكردي»، الذى لم يستطع البحر ابتلاعه . وتعففت الأسماك عن التهامه، فألقت به الأمواج على الشاطئ، فاقد الحياة. هذه الصورة هزتني، فالطفلان هربا. الطفل يسوع الهارب احتضنته مصر، أما الطفل إيلان فلم يجد إلا الموت حضنا. ومثلما الأوضاع اليوم تدفع كثيرين لترك بلادهم، واللجوء لبلاد أخري، لم يكن المناخ الذى ولد فيه المسيح أفضل حالا. فيوسف قلق بشأن حمل السيدة العذراء مريم، وأى رجل شرقى يمكنه فهم المخاوف والشكوك التى جالت بصدر يوسف، لكن يوسف وكما تخبرنا الكلمة المقدسة: «أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف ، قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا، ولم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرا».( مت 19 18 :1) ولكن الله تدخل فى الأمر، إذا ملاك الرب قد ظهر له فى حلم قائلا: «يايوسف بن داود، لاتخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذى حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم . ( مت 1: 22 -21) وهكذا إلى يومنا هذا ، مازال الله يتدخل فى اللحظات الفارقة. وإن بدا أن النهاية تكتب والخاتمة حتمية إلا أن الكلمة العليا والأخيرة تبقى لله عز وجل. فهو يتدخل فى اللحظة الفارقة فيحول الأحداث. وهذا ما نؤمن به: أن لله السلطان على الظروف والأحداث. ولد المسيح ليس فقط فى مناخ من الشك، بل صحب الشك شائعات كثيرة. فزيارة المجوس ألقت المخاوف فى قلب الملك، والتى خلقت اضطرابا فى القصر. وقلقا فى المذود. فزيارة الحكماء الذين أتوا ليروا الملك غير المستدل على عنوانه خلقت مناخا من الشائعات فكيف يولد ملك جديد بعيد عن القصر، وقد فشل الكهنة فى ذلك الوقت أن يحددوا المكان بالضبط، هذه الشائعات حولت المشهد لمشهد دموى عنيف: «حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا . فأرسلا وقتل جميع الصبيان الذين فى بينت لحم وفى كل تخومها، من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذى تحققه من المجوس. حينئذ تم ماقيل بارميا النبى القائل: «صوت سمع فى الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكى على أولادها ولا تريد أن تتعزى ، لأنهم ليسوا بموجودين (مت 16:2 18) ياله من مشهد عنيف صنعته شائعات، فالشائعات سلاح قاتل، وقد يكون القتل المعنوى أقسى بكثير من القتل الحرفى للجسد، ونحن اليوم ونحن نتذكر الميلاد وما أنتجته الشائعات من تدمير نصلى لله، أن يحمى بلادنا من خطر الشائعات ليعم السلام مصر. خرج يسوع هاربا من هذا المشهد العنيف لمصر، باحثا عن الأمن من بطش هيرودس، إلا أن رحلة الهروب لاقت تحديات لم تكن سهلة. فالسيدة العذراء مريم ويوسف والطفل يسوع بصدد الدخول لتضاريس جديدة، تتلخص فى صحراء وواد ، على عكس الطبيعة الجبلية لأرض فلسطين. إنهم أيضا يرحلون ليعيشوا وسط شعب لايتكلمون لغته، ولنتخيل كم كان تعلم اللغات صعبا آنذاك. وليست اللغة فقط هى الجديدة عليهم بل العادات والتقاليد أيضا جديدة. لكن فى وسط كل هذا التحديات لم ينقطع أبدا أمل العودة إلى الديار. وقد كان هروب يسوع إلى مصر يختلف عن هروب بنى إسرائيل من مصر. فبنى إسرائيل لم يدركوا التضاريس الجديدة للأرض، وغاب عنهم السياق والهدف، فكان مصيرهم الحتمى هو التيه لأربعين سنة فى البرية. ولنسأل أنفسنا اليوم ونحن على مشارف أرض جديدة على المستويات السياسية والاقتصادية وغيرها. هل ندرك جيدا تضاريس مانحن ذاهبون إليه، وهل نعرف الغاية التى نحن ذاهبون اليها والسياق الذى سنسير فيه! علينا التأكد حتى لانضل . كان هروب يسوع مؤقتا فلم يفارق العائلة المقدسة حلم العودة للوطن ، ولكن العودة كانت لمكان جديد الناصرة بدلا من بيت لحم. الهروب ليس بالضرورة هروبا جغرافيا ، فجميعنا نهرب، بعض الهروب سلبى والبعض الآخر إيجابى ، لكن الميلاد يعلمنا أن للعودة من الهروب وقتا ، وحتما وقت الهروب سينتهي. ورغم أن هروب يسوع كان قسريا، إذ لم يكن هناك مجال للاختيار. لكن العنف الذى دفع العائلة المقدسة للهروب وإن كان انتصر انتصارا مؤقتا إلا أنه انتهى بنهاية مريرة لمرتكبيه. فى النهاية عاد الطفل اللاجئ يسوع إلى وطنه الذى فيه استطاع برسالته أن يؤثر فى العالم. الميلاد يعلمنا أن ننظر إلى خواتم الأمور. فمن حقق انتصارا فى البداية ، انتهى نهاية مؤسفة، ومن فى البداية هرب لاجئا فى النهاية صار منتصرا . وعليه يجب أن نتحلى بالحكمة ، والصبر والتخطيط. فى ذكرى الميلاد نشكر الله من أجل بلادنا. من أجل ثورتين ، 25 يناير التى حررتنا من الخوف 30 يونيو التى حررتنا من الفوضى والتدمير. نصلى لكل لاجئ هرب دون اختيار ، وكل من فقد بلده، أوفقد أهله . ونصلى لمصرنا الحبيبة قادة وشعبا ، راجين الله ان يعم السلام بلادنا. فالدور الذى قام به الجيش المصرى والثوار فى 30 يونيو حمى تسعين مليونا من الفوضى واللجوء لمزيد من مقالات القس اندريا زكى