على طريقة مباريات «البنج بونج»، تسارعت وتيرة الخلاف القائم بين المملكة العربية السعودية وإيران خلال الأيام الماضية، وسرعان ما لحقت بالصراع الذى لم يزل إعلاميا ودبلوماسيا حتى الآن أطراف إقليمية أخرى، فأعلنت أكثر من دولة عربية وإفريقية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران أو تقليص مستوى التمثيل الدبلوماسى معها، لم يكن التصعيد المتبادل بين الجانبين السعودى والإيرانى وليد اللحظة بقدر ما كشف عن نار مشتعلة يغطيها قليل من الرماد. العلاقة بين المملكة وإيران، أو للدقة مستقبل الصراع بين الرياضوطهران، كان موضع اهتمام الكثير من مراكز الأبحاث وبيوت التفكير الغربية مع التركيز على الصبغة الطائفية للصراع، ومع ذلك هناك عدد قليل من الدراسات التى تعالج بشكل خاص العلاقات بين البلدين وهى فى الواقع من الأمور الصعبة فى التناول، وخاصة أن المنافسة شرسة ومعقدة ويعود تاريخها إلى عام 1979، ويعرض فى المكتبات العالمية الآن أكثر من كتاب يناقش الصراع بين الرياضوطهران والذى ينطوى على الكثير من التكهنات، فإن معظم الموضوعات التى تخص ذلك الأمر مثيرة للجدل. إزاء هذه الخلفية يتناول الكاتب البريطانى سيمون مابون فى كتابه الذى نشر فى 30 ديسمبر المنقضى، لدار النشر البريطانية أى بى توريس، فى 312 صفحة، تحت عنوان «المملكة العربية السعودية وإيران: تنافس القوى فى الشرق الأوسط» من خلال سبعة فصول- محاولة لشرح طبيعة التنافس المعقدة بين الرياضوطهران، الكاتب هو أستاذ فى العلاقات الدولية فى قسم العلوم السياسية والفلسفة والدين فى جامعة لانكستر، وحاصل على درجة الدكتوراه فى العلاقات الدولية من جامعة ليدز، ويقدم الفصل الأول إطارا تحليليا مبنيا على الواقعية، والتى يطلق عليها المؤلف «معضلة التناقض،» هذا الإطار يركز على أهمية الهوية وآثارها على الاعتبارات الأمنية للدول، حيث إن «تنافر الهوية» فى بلد يؤدى إلى معضلة الأمن الداخلى، ويبدأ التحصن فى الجهات الفاعلة، والجهود المبذولة لإيجاد الحلول الداخلية للتهديدات الناجمة عن ذلك، وهو يؤثر فى الأمن الخارجى ووضع الدولة فى منافسة مباشرة مع الدول المجاورة. يحدد الكاتب مجالات الصراع الأيديولوجية والجيوسياسية بين البلدين، والتوترات بين الحضارة العربية والفارسية والتوترات الطائفية وتأثير الثورة الإيرانية عام 1979 على اللعب فى الجزء الأيديولوجى للعلاقات الإيرانية-السعودية، حيث إن المنافسة الجيوسياسية بين الرياضوطهران والتى تدور حول الخليج العربى عقدت مسار القضايا الإقليمية فى المنطقة، وخاصة وسط الدور الخطير التى لعبته الولاياتالمتحدة التى وصفها الكاتب بأنها وكيل الصراعات. الهويات المتضاربة الكاتب يرصد الخطوط العريضة لمحددات العلاقة بين الرياضوطهران، ويؤكد على أهمية الإسلام، الذى يتم استخدامه من قبل القوتين بوجه خاص كأداة إضفاء الصفة الشرعية لحل معضلات الأمن الداخلى ولإثبات التواجد الخارجى، بما فيها من حالات القبلية الدينية والأيديولوجية العرقية، ويرى الكاتب أن وجود العديد من الهويات داخل كل دولة يعد تحديا كبيرا على سلامة الأيديولوجية أو الإقليمية للدولة حيث إن التناقض والصراع بين هذه الهويات الداخلية لا يمكن إنكاره. ثم يعلق على التوترات بين الأنظمة وبعض الجماعات الداخلية الأمر الذى يؤدى إلى قلق من جانب النخب الحاكمة فى البلدين والذى يمكن أن يفتح المجال للتدخل من قبل الجهات الخارجية، نظرا للاختلافات الطائفية بين الرياضوطهران، التى تتكون على التوالى الوهابية السنة والشيعة، حيث إن وجود جماعات الشيعة فى المملكة العربية السعودية والجماعات السنية فى إيران يثير الريبة تجاه الآخر. ويرى الكاتب أن إيران تنشر أن الحكومة السعودية تعادى بشكل مستمر الشيعة، وذلك بسبب ولائهم لإيران واتصالاتهم مع ملالى طهران، وعلاوة على ذلك، فهناك تصور من آيات الله أن الدعم السعودى للسنة ممتد ومتشعب داخل إيران، وهو ما يزيد الشك من نفوذ آل سعود داخل الجمهورية الإسلامية. يشير المؤلف إلى أن المذهب السنى أكثر المذاهب الإسلامية أتباعا وسعة انتشار، حيث يبلغ عدد متبعيه حوالى 90٪ من مسلمى العالم، كما يعد المذهب الرسمى لمعظم الدول الإسلامية فى الوقت الحاضر، ويعتبر أهل السنة هم الغالبية الساحقة فى دول العالم الإسلامى والتى هى خمسين دولة باستثناء إيران وأذربيجان، حيث يشكل الشيعة الإثنى عشرية الأغلبية، وسلطنة عمان حيث يشكل الإباضية الأغلبية. وداخل المملكة العربية السعودية فإن أغلبية السعوديين من السنة وتقدر نسبتهم بحوالى من 85 إلى90٪، فى حين يمثل الشيعة حوالى من 10 إلى 15٪، منهم شيعة جعفرية، ويتركزون فى المناطق الشرقية مع وجود للطائفة الإسماعيلية فى منطقة نجران، وهو ما أدى إلى ما سماه الكاتب تناقض الهوية داخل البلد الواحد الذى أدى إلى اختلاف الانتماءات. وفى المقابل فإن إيران تتسم بنفس التناقض فى الهوية، حيث بلغ عدد سكان إيران حاليا أكثر من 75 مليون نسمة، يشكل المسلمون معظم السكان وهناك أقليات دينية أخرى من بينها البهائيون، المندائيون، الزرادشتيون، اليارسانيون، اليهود والمسيحيون، إضافة لعرقيات مختلفة كالأكراد والتركمان والبلوش والأرمن والعرب وغيرهم، ويتركزون فى شمال وجنوب غرب إيران، وحوالى 98 ٪ من الإيرانيين مسلمون، حوالى 89٪ من الشيعة و9٪ من السنة، واللافت للنظر أن هذه النسبة، هى معاكسة لنسبة المسلمين الشيعة إلى السنة فى بقية العالم. تاريخ الصراع ويلفت الكاتب الانتباه إلى أهمية تقديم الدعم للجماعات التى تشترك فى النظم العقائدية المماثلة فى جميع أنحاء المنطقة، ويقول إن كلا من المملكة العربية السعودية وإيران تقدم الدعم للجماعات فى أنحاء المنطقة فى محاولة لصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية، ورأى الكاتب أن العلاقات بين البلدين اتسمت بالاحتقان الشديد، فقد قطعت السعودية العلاقات الدبلوماسية مع إيران فى 1988 بعد مصرع أكثر من 400 شخص، ومعظمهم إيرانيون، أثناء أدائهم فريضة الحج، فى منى فى صدامات مع الشرطة السعودية، وتمت استعادة العلاقات عام 1991. وتناول الكاتب أيضا الأحداث التى أدت إلى تزايد التوترات والصراع، ومنها إدخال مواد متفجرة عام 1986 حيث اكتشفت سلطات الأمن السعودية عددا من الحجاج الإيرانيين القادمين لمطار جدة وهم يخبئون فى حقائبهم مادة شديدة الانفجار وهى C4، وخلال تفتيش رجال الجمارك لعدد 95 حقيبة تم ضبط ما يعادل 51 كجم من هذه المادة، وسجلت اعترافاتهم وأعلنت بالتليفزيون السعودى، وفى عام 1987 وأثناء موسم الحج أثار الحجاج الإيرانيون الشغب فى مكةالمكرمة وأسفرت تلك الأحداث عن مقتل 402 من الأشخاص منهم 85 من رجال الأمن والمواطنين السعوديين، و42 من بقية الحجاج الآخرين الذين تداخلوا فى المسيرة وكانوا من مختلف الجنسيات، و275 من الحجاج الإيرانيين المتظاهرين معظمهم من النساء. وجاءت حادثة مكة 1988 على إثر اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حيث قام الحجاج الإيرانيون بمظاهرة سياسية عنيفة ضد الموقف السعودى الداعم للعراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وذلك أثناء الحج فى مكةالمكرمة فى عام 1987، وبعد الشغب مباشرة، طالب الخمينى الشيعة بالثأر لمن سماهم قتلى الحجاج الإيرانيين، وذلك بالإطاحة بالحكومة السعودية. وأيضا حادثة تدافع منى العام الماضى حيث توترت العلاقات الإيرانية السعودية بعد حادثة تدافع منى، وخاصة بعد أنباء عن عدد كبير من القتلى الإيرانيين فى الحادثة، وقد أعادت هذه الحادثة للواجهة، مطالب الإيرانيين بتسيير مشترك تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامى لمناسك الحج. وبخلاف دور الخلافات الأيديولوجية، كانت للتغيرات الجيوسياسية الكبرى دور مؤثر فى تغيير طبيعة العلاقات بين البلدين، ومنها الثورة الإيرانية (1979)، وحرب الخليج الأولى (1991)، والاحتلال الأمريكى للعراق (2003)، والربيع العربى والتى تعد من التطورات الكبرى التى غيرت بشكل عميق فى ميزان القوى فى المنطقة وبنيتها الجيوسياسية، بالإضافة إلى ذلك، استغلت هذه القوى المتنافسة الخلافات الأيديولوجية كورقة ضغط ضد بعضها البعض، وهذا هو السبب فى تصوير الحكومة السعودية للثورة الإيرانية على أنها ثورة شيعية، واتهمت إيران بانتهاج سياسة لبناء الهلال الشيعى، فى المقابل، سعت إيران إلى إجراء تمييز بين المدرسة الوهابية والإسلام السنى. ساحات الحرب بالوكالة ورأى الكاتب أن المخاوف السياسية والاقتصادية أخذت مكانها أيضا فى الصراع، بدلا من تلك المخاوف الأيديولوجية التى تهيمن على العلاقة بين الدولتين، وعلى الرغم من أن الكاتب حاول أن يشرح الطبيعة المعقدة فى العلاقات الإيرانية السعودية، إلا أنه لم يقدم تحليلا مفصلا للأحداث الكبرى، وبعض القضايا التى لا تزال بحاجة إلى إثبات، وقد ذكر الكاتب فى كثير من الأحيان لبنان والعراق وسوريا وفلسطين والبحرين كجبهات لمعارك بالوكالة بين الرياضوطهران، ولم يشر إلى اليمن فى كتابه كساحة لمعركة أخرى بالوكالة. وقد تناول كتاب آخر لنفس دار النشر، أى بى توريس، فى حوالى 224 صفحة ونشر فى فبراير 2015، للكاتب روبرت ميسون، تحت عنوان «السياسة الخارجية فى إيران والمملكة العربية السعودية: الاقتصاد والدبلوماسية فى الشرق الأوسط»، حيث ينظر ميسون إلى الأثر الذى خلفته الاعتبارات الاقتصادية فى العلاقة مثل إنتاج النفط والغاز والعقوبات والتجارة والاستثمار، والتى أثرت على السياسة الخارجية وعمليات صنع القرار والنشاطات الدبلوماسية. ومن خلال دراسة السياسات الخارجية للمملكة العربية السعودية وإيران تجاه بعضهم البعض، وتجاه الشرق الأوسط وعلى نطاق أوسع خارجها، يسعى ميسون إلى تسليط الضوء على كيفية أن السياسة النفطية- بما فى ذلك إنتاج النفط، والتسعير وأمن العرض والطلب- أى العامل الاقتصادى هو الذى يحرك الدبلوماسية والتنافس داخل هذه القوى الإقليمية المحورية وبالتالى كتابه يقدم تحليلا حيويا. روبرت ماسون، باحث فى كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية فى جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، وهو حاصل على درجة الدكتوراه فى سياسات الشرق الأوسط من جامعة إكستر، وقد أكد أيضا على ضرورة فهم الدوافع للسياسة الخارجية فى هذه البلدان والتى تؤثر على خيارات السياسة العامة فى المملكة العربية السعودية وإيران والتى تنبع من محاولة تحقيق التوازن بين العوامل الاقتصادية والأيديولوجية والجيوسياسية، فى الوقت الذى كان فيه الشرق الأوسط يمر بمرحلة تحول سياسى مكثف فى أعقاب اندلاع الربيع العربى، وكانت إيران والمملكة العربية السعودية قادرتين على أن يطغى دورهما الخارجى فى القضايا الإقليمية. ورأى الكاتب أن سلوك السياسة الخارجية يستند إلى أعباء التاريخ، والحفاظ على أمن الدولة، والسياسة النفطية، وديناميات السلطة المحلية، ودور القوى الخارجية، خاصة أن النفط لعب منذ فترة طويلة دورا هاما فى السعودية سواء داخل المنطقة أو على الصعيد الدولى، وهذا جعل منها حليفا حيويا بالنسبة للغرب، والتى بلغت ذروتها فى تمركز القوات الأمريكية على الأراضى السعودية فى الفترة التى سبقت حرب الخليج عام 1991. وفى المقابل، فإن الإستراتيجية الإيرانية، بدلا من التركيز على العلاقات مع الغرب، كان لها عدد من اللاعبين الآخرين، مثل آسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية، ويستخدم ميسون الحالات السعودية والإيرانية لتوضيح مجموعة من العوامل الأيديولوجية، الجغرافية الاستراتيجية والموارد الاقتصادية والتى أسفرت عن هيمنتهما فى النظام الإقليمى، من خلال التركيز على العوامل الاقتصادية فى بناء تحالفات تكتيكية، وفى كل الحالات فإن اللاعبين الدوليين استفادوا من السياسة النفطية للبلدين؛ فكل بلد يبحث عن مصالحه الاقتصادية.