ربطت بين هنري ميللر وأناييس نن علاقة قوية واستثنائية، جمعت بين الصداقة والحب طوال فترة طويلة.. كانت صديقة ومُحسنة إليه ومُعيلة.. كان هنري يعشقها حقًا رغم امتلاء حياته بالعديد من العلاقات، وهذا ما يبدو جليًا في هذه الرسالة التي تظهر مدى عمق العلاقة بين الاثنين؛ لقد شارك ميللر نن حياتها وعملها وبيتها، وكان كل منهما يتغلغل تحت جلد الآخر، وهذه الرسالة مأخوذة من مجموعة المراسلات الضخمة بينهما، والتي تم جمعها في كتاب فيما بعد. نيويورك مارس 1935 أناييس.. ليتك تكونين معي على مدى أربع وعشرين ساعة، تراقبين كل إيماءاتي، تنامين معي، تأكلين معي، تعملين معي، هذه الأمور لا يمكن أنْ تحدث. عندما أكون بعيدًا عنك أفكر فيك باستمرار، فذلك يُلوِّن كل ما أقول وأفعل. ليتكِ تعرفين كم أنا مُخلص لك! ليس فقط جسديًا، بل وعقليًا، وأخلاقيًا، وروحيًا. لا شيء يُغويني هنا، لا شيء على الإطلاق. إنني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضد كل شيء. للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تمامًا في كائن آخر، فيك. في استطاعتي أنْ أتخلّى عن كل شيء من دون أنْ أخشى الإرهاق أو الضياع. عندما كتبتُ في مقالتي بالأمس "لو أني لم أذهب إلى أوروبا إلى آخره..." لم أكن أقصد أوروبا، بل أنتِ. لكني لا أستطيع أنْ أجهر بهذا للعالم في مقالة. إنَّ أوروبا هي أنتِ. لقد استوليتِ عليّ، أنا المكسور وأنتِ التي جعلتني كاملًا. ولن أتداعى أبدًا -وليس هناك أدنى قدر من الخطر من وقوع هذا. لكني الآن أشدّ حساسية، وأكثر استجابة لأقل خطر. فإذا لاحقتكِ بجنون، وناشدتكِ أنْ تصغي، ووقفتُ خارج بابك وانتظرتكِ، فذلك ليس محاولة لإذلال نفسي. بالنسبة إليّ ليس هناك إذلال في هذا الكفاح للاحتفاظ بك. هذا فقط برهان على أني على وعي تام، ويقظة شديدة، وتوق، بل توق عميق ويأس لأجعلكِ تدركين أنَّ حبي العظيم لك شيء حقيقي وجميل إلى أقصى مدى. في السابق كنتُ أكيل لأي امرأة الصاع صاعين مقابل أي ألم تُسببه لي. لكني الآن أعلم أنَّ الألم هو نتيجة سلوكي أنا. أعلمُ أنه حالما يحدث أمر، أمر خاطئ، فإنَّ الخطأ هو خطأي أنا. إنني لا أشعر بالذنب، بل بمذلة عميقة في مواجهة حبي. إنني لا أشكّ فيكِ، يا أناييس – بأي صورة من الصور. لقد قدّمتِ لي كل البراهين التي يمكن لامرأة أنْ تقدّمها إلى رجل. أنا الذي ينبغي أنْ أتعلّم كيف أقبل هذا الحب وأصونه. لقد ارتكبت الكثير من الأخطاء الفادحة. وسأرتكب المزيد منها، دون شك. لكني لن أتراجع. يبدو أنَّ كل يوم يرفعني إلى مستوى أعلى، إلى الذُري – اتركيني هناك، أتوسّل إليك. لقد فكَّرت في أنْ أقول لكِ عبر الهاتف، لكني رحت أثرثر " أناييس، لا أستطيع أنْ أجوب الشوارع وأنا مبتئس. هذا لا يجوز. لدى الكثير من العمل ولا أريد أنْ أُدمّر نفسي، ولا حتى أصغر جزء مني. إنَّ كل ما لديّ نفيس وكنتُ أحاول أنْ أصونه، لأقدّمه هدية إليك. إنني هنا لا أجوب الشوارع كما كنت أفعل. ليس لدى الشوارع ما تقول لي. هذا أيضًا كان بمثابة إعطاء شيء من نفسي للعالم، بدل جذب العالم إلى داخلي. والآن أفكّر في غرفتي الصغيرة، الغرفة التي وفّرتِها لي، وأشتاق إلى العودة إليها، لكي أُكرّسَها للعمل. يبدو أنَّ العالم كله يبدو ملتحمًا بكِ – فلماذا أخرج سعيًا وراءه؟ إنني أشعر وأنا أتحدث مع الناس بشيء غاية في الجمال داخلي. أشعر بالمسافة بيني وبين الآخرين. وأصون تلك المسافة. لا أعلم مَنْ أنا. لم تعد هناك أية شكوك. ولكن عندما تبتعدين عني، حتى ولو قليلًا، يهبط السواد عليّ، أشعر بأني مُحاصَر. ولكي نُحافظ على ما خلقنا بيننا، وداخلنا، علينا أنْ نتحرّك بسرعة وأنْ نتعرََّض للخطر، ونحن في كامل وعينا. لقد وصلنا إلى شيء لم تعرفه إلا القِلّة القليلة من الناس. يجب أنْ نكون صادقَين مع نفسينا، ومع ما نعرف ونشعر. إذا زللتِ، يجب أنْ أرفعكِ. وإذا زللت، يجب أنْ تفعلي الأمر نفسه. وإلا اهتزَّ العالم وضعنا. لا تظني، يا أناييس، أنَّ ما يدفعني إلى التصرُّف بيأس هو خوفي من أنْ أفقدكِ. إنه ليس الخوف، بل الرغبة في التمسُّك بك. إنَّ ذاتي الخائفة ماتت. تلك الذات كانت سلبية، مُهمِلة، وغائبة عن الوعي. والرجل الذي أنا عليه الآن يقِظ وفعّال، إنه يقفز، ويُقاتل، ويرفض أنْ يُرخي قبضته. هناك فرق، ألا ترين؟ الذات القديمة كانت ستنحل وتذوي على السرير، أو ستسكر، أو تهيم على وجهها في الشوارع، أو تلجأ إلى صديق قديم. لم يعُد في استطاعتي أنْ أفعل هذه الأمور. هذه الأمور كلها كانت تُخفف عني، تمكّنني من العويل ألمًا ومعاناة، وربما كنتُ أرغم فيهما حينئذٍ. لا أريد أنْ أُعذِّب نفسي، سوف أضع نفسي تحت تصرّفك دائمًا، وجهًا لوجه، بسرعة، ومباشرة. لم أسمح بأي غلط، بأي حادث يتطور بسرعة إلى سوء فهم. لن أسمح لنبات ضار واحد ينمو في هذه الحديقة التي نُعدّ. إنَّ الحياة قصيرة قِصرًا مُرعبًا لنُحقق فيها معًا رغباتنا كلها. يجب أنْ نُمسك بالزمن ونلوي عنقه. يجب أنْ نعيش كلٌ منا داخل الآخر. عندما اتّصلتُ بك لم أكن متأكّدًا من أني سأجدك. في تلك الأثناء اتصلتُ بكِ مرّتين وقيل لي إنكِ في الخارج. كنتُ أتصبّب عرقًا. رحتُ أتمشى في طول شارعك وعرضه وحول منزلك، تفرّجتُ على المطاعم، ثم عدتُ ووقفتُ أمام بابك. ولو أني لم أتمكن من التحدث معك عبر الهاتف كنتُ سأرسل إليك برقية، ومن ثم أعود لأكتب لك رسالة تُسلَّم باليد. نظرتُ في دليل الهاتف بحثًا عن اسم جويلر، مُعتقدًا أني قد أجدك في منزلك – منزلهم. فلم أعثر على العنوان. ولو أني انتظرتكِ هذا المساء ولم أجدكِ لاقتفيتُ أثر رانك، وحاولت الحصول عليه منه، بالقوة إذا اقتضى الأمر. لم أتمكن من التفكير أين يمكن أنْ تكوني، وماذا تفعلين. لم أُصدّق أنكِ ما زلت غاضبة مني، لم أفكّر إلا في أنكِ تبتعدين عني، متألمة، وحائرة، ويائسة من حبي. ثم إنَّ نيويورك تلك تبدو كالهولة – بحجمها، بشقوقها التي لا تنتهي، وعبث العثور على تلك التي تبحثين عنها كالمسعور. إنَّ المرء يتحول إلى قشّة، إلى خصلة شعر تذروها الريح، تمزّقه كل ذكرى، يُصبح ملعونًا، ضائعًا ومُحطَّمًا، تتقاذفه الرياح. تقولين أنكِ كنتِ تبكين. وأنا كنتُ أبكي، أجوب الشوارع والدموع تسيل على وجهي. آه، لماذا، لماذا ؟ لماذا علينا أنْ نعاني ؟ هل نحن هشّون، مُعرَّضون لكل سهم؟ هذا شيء جميل وفظيع. لكننا أشبه بتوأم نحاول أنْ ننفصل. دعينا نبقى ملتصقَين معًا، بكل ما في الكلمة من معتنى. ادخلي فيّ، يا أناييس، وابقي هناك، لا تخرجي مني أبدًا، ولا بمقدار فكرةٍ واحدة. لقد مررتُ وإياكِ بتجارب رهيبة، تجارب مرعبة. ألا نستطيع أنْ نُغرق هذا كله في حبّنا ؟ أنتِ تعلمين الآن أني لا أحمل أفكارًا زائفة عنكِ، وأني قبلتكِ كامرأة، امرأتي. فلا تعاقبيني بسبب بطئي. بل اشكري النجوم لأننا كافحنا ونجحنا. لقد أخبرتك ذات مرة في رسالة كم أنا متيقّن من أنَّ مصير الإنسان كامنٌ داخله – وليس هناك في النجوم. وشعوري بهذا يترسّخ أكثر فأكثر. ألستِ معي ؟ ألستِ معي ؟ يجب أنْ تكوني كذلك، لأنَّ هذا ما أستشفّه من رسالتكِ. كيف يمكن ألا تكون القفزة الجريئة التي قمتِ بها إلا استجابةً لإملاء داخليّ. كان يجب أنْ تقفزي من أجلي، لكي تُنيري لي الطريق. لقد أثبتِّ ما أخبرتكِ ذات يوم أنه قول رائع – هل تذكرين ؟ " الجرأة لا تقتل " لقد رأيتِها في الملاحظات التي دوّنتها على الطاولة في فيلا سورا. إنني أتذكَّر جيدًا كل ما لاحظتِ. أستطيع أنْ أرى ضياءً في وجهكِ، وفي يديكِ المتلهّفتين، وفي إيماءاتك التي ترسمينها في الهواء وتشبه الطيور. أنتِ بالنسبة إليّ الضوء نفسه – أينما تمرين يومضُ ضياء مُبهِر. هل ستسامحينني لأني كتبتُ هذا كله، بدل أنْ أعمل ؟ أليس هذا، أعني حياتنا، أشدّ أهمية من العمل ؟ عمل ! عمل ! لماذا أعمل ؟ لابد أنَّ السبب في الأصل أُبالغ في تقدير نفسي، في حب نفسي، حتى أني حوّلت العمل إلى ولع وحاولتُ أنْ أُبرّره بأنواعٍ شتى من الأكاذيب والأضاليل. كنتُ أُشيدُ نُصُبًا للأحزان الماضية. هذا كله انتهى. لقد تحوّل وجهي نحو المستقبل، بفرح. سوف يكون العمل طبيعيًا أكثر، ولن يكون غاية بحد ذاته. لقد كدتُ أتجرّد من الإنسانية. وأنتِ أنقذتني. الآن أُدركُ أني كائن بشري كامل وباعتباري كائنًا بشريًا لابد أني أكثر قيمة بالنسبة إليكِ من أعظم الفنانين قاطبة. لم يضِع أي شيء جراء هذا التغيير. على العكس، بل كسبتُ كل شيء. إنكِ لا تنافسين عملي. أنتِ لستِ المُلهِمة التي تمّت التضحية بها. ما أشد حِدّة وعيي، وامتناني لك، لأنكِ اجترحتِ هذه المعجزة. إنها إبداعكِ، وهي إنسانيّة صِرف، تمَّ بلوغها عبر كفاحٍ مرير. وما فعلتِ لا يقلّ عن أي عمل بطوليّ. لو كنتِ مجرد امرأة لفشلتِ. أنتِ فنانة – في الحياة – وأي تقريظ يمكن أنْ أصِفكِ به ؟ أنا كنتُ فنانًا فقط بالكلام، وفي الحياة كنتُ فاشلًا بمرارة. كلمات، كلمات – كم تخنق روح المرء ! أعطني المرأة وسوف تحتل الكلمات موقعها المناسب. لقد كنتُ عبدًا للكلمات. الآن سوف أستخدمها. أحيانًا أعتقد أنَّ مجيئي إلى هنا سوف تكون له هذه النتيجة بالذات، أي سوف تصبح شخصيتي محسوسة وملحوظة. أعتقد، إذا توقّعت مكافأة مستحقّة، أني حالما أُقنع الناس بنزاهتي فإنَّ أي شيء أفعله أو أقوله، أي شيء أكتبه، سوف يلقى الاستحسان. لا يمكن للناس أنْ يتجاهلوني وهم يعلمون مَنْ أنا، يعرفون صدقي، ورصانتي. لم تعد لدى أية رغبة في لعب دور المُهرِّج، المتأذّي، المُهمَل. إنني أتوق الآن إلى التمسُّك بالناس، والوقوف أمامهم والتحدُّث إليهم، وإقناعهم. إنَّ الأمر لم يعُد يتعلّق بالأدب، بل بحياتي، بحياتي معك. أشعر بهذا بقوة بحيث أني واثق من أنه يجب أنْ يُحَسّ. قد أُصبح أشدّ بساطة بكثير. كل كلمة يجب أنْ تحترق. الكلمات مملوءة بدمي، بولعي بكِ، بنهمي للحياة، بالمزيد من الحياة، الحياة الأبدية. لقد منحتي حياة، يا أناييس. أنتِ الشُعلة التي تشتعل داخلي. وأنا حارس الشُعلة. أنا أيضًا لديّ مهمة مقدّسة. آه، ألا ترين وتعرفين وتصدقين كل ما أكتب إليك ؟ أليس واضحًا وصحيحًا وعادلًا ؟ ألن تمكثي معي، في داخلي دائمًا ؟ لقد صعدتُ من أعماق سحيقة لأعثر عليك. إنَّ قولي إني أحبك ليس كافيًا. إنه أكثر بكثير، بكثير. اسبري أعماقي، أخرجي كل ما في داخلي. أشعر بأني غني غنى لا ينضب. هنري..