عُرف جون ميلتون في التاريخ عبر قصيدته الأكثر شهرة، "الفردوس المفقود"، والتي تعتبر من أعظم الأعمال الشعرية في اللغة الإنجليزية؛ وإبان الحرب الأهلية الإنجليزية تعرض لعقوبات بعد رجوع الحكم الملكي، وتعرض للإصابة بالعمى فكتب "الفردوس المفقود واتبعها ب"استرداد الفردوس، كما قابل جاليلو عبقري عصره، وجسدتها لوحة الرسام آنيبال جاتي الشهيرة "جاليلو وميلتون" والتي لا تزال حتى أيامنا هذه معروضة في أهم متاحف فلورانسا. ولد جون ميلتون في التاسع من ديسمبر عام 1608 في إحدى ضواحي العاصمة البريطانية لندن، ونشأ في بيئة يغلب عليها طابع التدين الممتزج بقدر كبير من الالتزام، وكان جده عانى الكثير في عصر الملكة اليزابيث لاعتناقه للمذهب الكاثوليكي، وكان أباه شغوفًا بالموسيقى، فجاء الابن هو الآخر مُحبًا للموسيقى التي تركت بصمات لا يمكن تجاهلها على آراء ميلتون الذي كان يرى انها وسيلة مهمة لجعل الشعر أكثر فاعلية وتأثيرا؛ كما أنه عاش حياة مليئة بالمآسي المفجعة، ففقد ابنه الأصغر عام 1652، ثم ما لبث أن فقد زوجته في العام نفسه، وكذلك فقد بصره في العام نفسه؛ وبعد أربع سنوات تزوج مرة أخرى وفقد زوجته الثانية وطفلتها الرضيعة، وفي سنة 1663 يخوض ميلتون غمار تجربة جديدة حيث يرتبط بسيدة تدعى اليزابيث ميتشال، ويظل يتخبط في هذه الحياة حتى اختطفه الموت. كان ميلتون مولعًا بالحرية، ودائمًا كان يقول أن الكفاح من أجل الحرية يتمثل في لغة التمرد، وكان في ذلك متأثرًا بالأفكار السائدة في عصره، حيث كانت حياة الفرد المسيحي عبارة عن صراع تقليدي يتم بين ثنايا النفس البشرية التي كانت أشبه ما تكون بميدان للقتال، وطرفا المعركة هما المسيح والشيطان وكانا يتصارعان من أجل الفوز بهذه النفسية البشرية؛ فرأى أن العقل الذي منحه الله للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار "ومن هنا فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة"، كما اهتم في كتاباته بالتأثيرات المختلفة للحرية، وخير دليل على ذلك هو أن الهيكل الرئيسي في قصيدته "الفردوس المفقود" يتمثل في الطغيان، عندما يرى الشيطان أن كلمة الخضوع تعني الاحتقار، فأصبح سجينًا لهذه الفكرة التي أصبحت الشغل الشاغل له، وبذلك أثرت في قراراته، فأصبح ينظر لنفسه أنه شخصية محتقرة، كما كان المجتمع ينظر إليه على أنه قائد مهزوم. واعتقد ميلتون أن الفرد الصالح قادر على أن يقوم باتخاذ قرار منطقي وعقلاني في كل لحظة وفي أي موقف يتعرض له في حياته اليومية، ومن الطبيعي أن تكون معظم شخصياته تعكس نجاحًا منقطع النظير في مقاومة الاغراءات بنجاح، والقدرة على تبني اختيار بين اتجاهين متناقضين هما الخير والشر؛ وتأثر إلى حد كبير بالنظرة الدينية للمرأة، فلم يقدم الحب الجسدي كما فعل غيره متناقضًا مع ظروف عصره، فلم يستخدم ألفاظًا مثيرة في تجسيد تأوهات العاشقين المعذبين، أو في التحدث عن العواطف الملتهبة، وذلك بالرغم من أن كثيرا من قصائده تناولت موضوع المرأة؛ ما جعل البعض يُشبهه بالمذهب الافلاطوني، والذي يبدأ فيه الفرد بالتعلق بشخص ما، فيكتشف أن كل الخير والجمال الموجود على هذه الأرض ما هو الا انعكاس لنموذج لا يمكن أن يوجد؛ فأكد ميلتون بهذا أنه صاحب مدرسة أدبية في الشعر، ويعده النقاد من بين عظماء الشعر الإنجليزي، لدرجة أنهم وضعوه جنبًا إلى جنب مع وليام شكسبير. شارك ميلتون الكثيرين من شعراء عصر النهضة القدرة على استخدام الأساطير الكلاسيكية بطريقة جادة في إطار من الشعر الديني، وكان احساسه بالكرامة وإيمانه بالجنس البشري بشكل عام منعه من تصوير الكائنات البشرية كديدان أو حتى شرذمة من المخطئين خلقوا من أجل أن يخطئوا كما فعل آخرون؛ ففي الفردوس المفقود ميلتون كيفية فقدان الإنسان للجنة بسبب طاعته، ثم بعد ذلك يعرض الأسباب التي أدت لسقوط الإنسان، فيروي قصة آدم وحواء مع الشيطان وكيف استطاع أن ينجح في إغوائهما بشتى الطرق من أجل معصية الله، وذلك عن طريق تحريضهما على الأكل من الشجرة التي تعرف ب"شجرة المعرفة" حسب الكتب المقدسة، أما في قصيدته "ليسداس" فكان يرثي الملك ادوارد الذي تحطمت سفينته ومات غرقا في البحر الأيرلندي وكان عمره لا يتعدى الخامسة والعشرين؛ أما في شمشون المصارع فحكي قصة شمشون الذي وقع في الأسر وتم ايداعه سجن غزة، وبعد ذلك يرد المحاولات المتكررة من أصدقائه وأبيه لإخراجه من السجن، وأثناء فترة سجنه يأمره الحاكم أن يستعرض قوته أمام الشعب في أحد الاحتفالات ولكنه يتمنع في البداية، ثم لا يلبث أن يوافق على ذلك، وتستمر القصة على هذا المنوال إلى أن تنتهي بموت شمشون في مشهد تراجيدي مؤثر.