فى قصيدته الأهم «الحذاء» يتحدث الشاعر والناقد والمخرج المسرحى والممثل نجيب سرور عن أبيه حينما كان نجيب لم يزل بعد طفلا يرى أباه شخصا شامخا قادرا على فعل كل شىء، كما يتحدث عن مشاعره الفخورة وتيهه على أصدقائه من الصغار حينما يستدعى عمدة القرية والده، وهو العمدة الذى ينظر إليه جميع بسطاء القرية باعتباره إلها، وهنا كانت سعادته بأن والده بات من الأشخاص المهمين الذين يستدعيهم هذا «الإله» كى يكون فى رفقته، ومن ثم صاحب والده فى هذه الرحلة المباركة من وجهة نظره، لكنه لم يلبث أن رأى «الإله/ العمدة» الذى يعتدى على الأب بالضرب، والسب، والإهانة، هنا يقول سرور: فألقى السلام.. ولم يأخذ الجالسون السلام! رأيت.. أأنسى؟ رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحذاء وينهال كالسيل فوق أبى! أهذا.. أبى؟ وفى مقطع آخر يعبر عن قسوة ما رآه وانهيار صورة الأب البطل فى عينيه حينما يؤكد: كرهت الإله.. وأصبح كل إله لدى بغيض الصور تعلمت من يومها ثورتي ورحت أسير مع القافلة على دربها المدلهم الطويل لنلقى الصباح لنلقى الصباح! ربما كانت هذه القصيدة من أهم القصائد التى كتبها نجيب سرور؛ فمن خلالها نعرف عالمه السيكولوجى ودوافعه الأولى التى جعلته منحازا دائما فى اتجاه الحق، والمقاومة، والوقوف على يسار السلطة حتى انضمامه لحركة «حدتو» (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني)، وهى من أهم الحركات الماركسية التى نشأت فى مصر، ومن هنا يتضح لنا السبب الذى جعل سرور ثائرا دائما على الظلم السياسى الذى انتشر فى عهد عبدالناصر، ومن بعده السادات، وهى الفترة التى زُج بمعظم المثقفين والسياسيين فى معتقلات صلاح نصر وجهازه المخابراتى. ظهرت موهبة نجيب سرور المتوهجة منذ الصغر، حتى إنه كان يؤدى قصائده حين يلقيها على أصدقائه تمثيلا؛ الأمر الذى يجعل الجميع يلتفتون إليه غير قادرين على الانصراف عنه؛ نظرا لقدرته البارعة على الأداء التمثيلى أثناء إلقائه عليهم، وكان أن ترك دراسته فى كلية الحقوق عندما وصل إلى السنة النهائية، مفضلا فى ذلك الدراسة فى معهد الفنون المسرحية، حيث صادق هناك الفنان الراحل كرم مطاوع، وحينما أُرسل سرور إلى موسكو.. فى بعثة من البعثات التعليمية من أجل إكمال دراسته هناك ودراسة الإخراج المسرحى صُدم بالوحدة الارتجالية مع سوريا، ثم مؤامرة الانفصال، وراقب عن كثب بطش المخابرات المصرية بالطلاب؛ فتحول إلى معارض سياسى فى الخارج، وسُحبت منه البعثة فزاد اقترابًا والتحامًا بأمميته، ومن روسيا سافر إلى المجر، لكنه لم يستطع البقاء هناك طويلا إلى أن عاد إلى مصر 1964، فى هذه الأثناء كانت مخابرات صلاح نصر فى أوج سطوتها، وكان من الطبيعى أن يحل نجيب سرور ضيفًا على زنازين نصر، فيعذب ويُصلب ويُمارس عليه كل أنواع التعذيب التى أبدع صلاح نصر ابتكارها. رغم هذا التضييق والتنكيل بنجيب سرور، إلا أنه ظل على موقفه لا سيما رفضه العديد من الأوضاع السياسية والاجتماعية فى المجتمع المصرى، لكنه تجاوز الخطوط الحمراء المسموحة له حين توقف أمام مجازر الملك حسين بحق الفلسطينيين فى سبتمبر عام 1970 بكتابة وإخراج مسرحيته «الذباب الأزرق»، وهى المسرحية التى سرعان ما تدخلت المخابرات الأردنية لدى السلطات المصرية لإيقافها، وبالفعل تم لهم ذلك، وهنا وبدأت منذ ذلك التاريخ مواجهة جديدة بين الأمن المصرى ونجيب سرور انتهت بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر ثم اتهامه بالجنون! هنا كانت ثورة سرور على النظام المصرى، هذه الثورة التى كانت سببا لتشريده وتجويعه، واتهامه بالجنون؛ بسبب معارضته الدائمة رغم التنكيل الدائم به، فكتب فى ذلك الحين قصيدته الأكثر شهرة «الأميات»، ورغم أن هذه القصيدة من أقل أعمال سرور قيمة فنية، ورغم أنها تغص بالكثير من المفردات الخارجة على العرف العام، إلا أنها كانت الأصدق من حيث التعبير عن الكثير من العبث الذى يعيش فيه المجتمع الفنى والثقافى والسياسى المصرى، فى هذه القصيدة صب اللعنات على الجميع بلا استثناء، وفضح الجميع من فنانين وكتاب، وسياسيين، وبالتالى مُنعت تماما من النشر، رغم أن مظفر النواب كتب فى نفس هذه الفترة قصيدة تتشابه إلى حد كبير مع ما كتبه سرور، وهى قصيدة «وتريات ليلية»، ولكن الحظ التعس جعل قصيدة النواب هى الأكثر شهرة وتداولا. كتب سرور فى النقد الأدبى كتابا مهما ودراسة طويلة بعنوان «رحلة فى ثلاثية نجيب محفوظ»، كما كتب العديد من دواوين الشعر، والكثير من المسرحيات المهمة، كان منها «آه يا ليل يا قمر» التى أخرجها المخرج الراحل جلال الشرقاوى، وقام بإخراج العديد من المسرحيات، والتمثيل على خشبة المسرح أيضا، ولكن رغم كل هذه المواهب التى تميز بها سرور تم التنكيل به، ونفيه من الحياة تماما، وتعذيبه كثيرا، وتشريده واتهامه بالجنون حتى تم إلقاؤه فى مستشفى الأمراض العقلية فى نهاية الأمر ليموت فيها عن عمر يناهز السادسة والأربعين من العمر.