" ولدت في قرية صغيرة تقتات بجني ما يزرع أهلها وما يربون من الدواجن والمواشي قسوة ، شيخ الكُتاب قطع علىّ الطريق إلى الأزهر، فدخلت مدرسة القرية، ولا أستطيع أن أنسى تعرض والدي للضرب من عمدة القرية المستبد، وقصيدة "الحذاء" تحكى عن تلك الواقعة، والتي ملئت قلبي حقداً على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين ، وفى قريتي عُمدة كالإلهْ..يُحيط بأعناقنا كالقدرْ ..بأرزاقنا.. بما تحتنا من حقول حَبالي " . " يلدن الحياةْ..وذاك المساء ..أتانا الخفير ونادى أبي..بأمر الإله !..ولبَّى أبي..ذهبنا إليه..فلما وصلنا..أردت الدخول..فمد الخفير يداً من حديد وألصقني عند باب الرواق..وقفت أزف أبى بالنظر..فألقى السلام..ولم يأخذ الجالسون السلام !..رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحذاء .. وينهال كالسيل فوق أبى !..لماذا أبي ؟..جدِّي الضريرْ قعيدٌ الحصيرْ..تحسَّسَني و تولَّى الجواب..بني .. كذا يفعل الأغنياء بكل القرى!..كرهت الإله..وأصبح كل إله لدى بغيض الصَّعرْ ، ومن يومها أصبحت قضيتي الأولى هي النضال من أجل كشف الحقيقة، ووجدت أن الشعر كلمة سهلة التكوين وسريعة الوصول، والمسرح هو الفضاء الآخر الأكثر رحابة وتأثيرا في حياة الناس، مما شجعني على ترك الدراسة بكلية الحقوق والالتحاق بمعهد التمثيل، لأتخرج منه عام 1956، لتتولد بعدها بيني وبين كبار الكُتاب والأدباء والمفكرين والمناضلين والفنانين علاقات متميزة من خلال أعمالي، وأتذكر إحدى الليالي الباردة حين جردني جرسون "مقهى ريش" من جاكتى؛ لعجزي عن سداد ثمن المشروب على مرأى من نجيب محفوظ ويوسف إدريس، والشيخ إمام والذي غنى لي بعدها البحر بيضحك ليه ؟..البحر غضبان ما بيضحكش..أصل الحكاية ما بتضحكش " . هكذا يتخذ السيناريست "وائل مصباح" من حكاية " نجيب سرور " كبطاقة تعريف يوردها على لسان الشاعر الكبير، ذلك الشاعر الذي ولد بالدقهلية، الفتى الريفي الذي قرر دخول معهد الفنون المسرحية، وتخصص في التمثيل . يقول زملاؤه عنه : " ان إلقائه للأشعار لم يكن مجرد إلقاء، بل تحرك بكل مشاعره وتقاسيم وجهه ". لم يتوقف نجيب عند القاء القصائد ، بل كتب دراسات أدبية، ناقش فيها "ثلاثية محفوظ" ، "تحت عباءة أبي العلاء" والعديد من الأعمال الأدبية. بداية " سرور " الحقيقية كانت بعد سفره للاتحاد السوفيتي من أجل دراسة المسرح، لخمس أعوام تعرف فيها أكثر على المدارس الأدبية، وشارك في العمل السياسي، ليعلن اعتناقه الفكر "الماركسي" الذي قرب منه الطلاب الشيوعيين، والثوار في بلده، ليعود بعدها ليكتب مسرحيته الأولى "ياسين وبهية" ليضمن لغة الشعر في المسرح العربي. اهتم " سرور " بأن يستخدم الموروث الشعبي من قصة " ياسين وبهية " ، مخالفاً إياه فيما يخص مقتل " ياسين " ، حيث ترك النص الأصلي النهاية مفتوحة لمقتل " ياسين " ، وذهب " سرور " في مسرحيته الى أن الباشا الإقطاعي هو قاتل " ياسين " الحقيقي. انتهج " سرور " مسار ثوري في أول مسرحية له بعد أن عاد لمصر، ليكتب بعدها عدة مسرحيات اتخذت طابع ثوري خالص ، مثل "يابهية خبريني، آلو يا مصر، ميرامار، وهي دراما نثرية مقتبسة عن رواية نجيب محفوظ المعروفة" ، ولعل هذه الروح الثورية التي تحلى بها نجيب كانت سببًا من أسباب سجنه، ففي وقت "صلاح نصر" واحتدام القبضة المخابراتية، كان نجيب مطاردًا من قبل السلطات، مرفوضًا منها. عند خروجه من السجن تجاوز الخط الأحمر ، حين توقف أمام مجازر الملك " حسين " بحق الفلسطينيين في ايلول عام 1971 بكتابة وإخراج مسرحية بعنوان " الذباب الأزرق " سرعان ما تدخلت المخابرات الأردنية لدى السلطان المصرية لايقافها، وبدأت منذ ذلك التاريخ مواجهة جديدة بين الامن المصري ونجيب سرور انتهت بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر ثم اتهامه بالجنون. يدخل " سرور " مستشفى الأمراض العقلبة أربعة مرات على مدى عشرة أعوام، ليتعرض عندها لمشاكل مالية، تؤدي به لأن يرفع لافتة "للبيع" لابنه "شهدي" بعد أن عجز عن الصرف عليه ، لم تقف مآسي " سرور " عند ذلك الحد ، فأثناء وجوده داخل مشفى الأمراض العقلية، تم إشاعة وفاته ، ليقرأ سرور المراثي التي رثاها بها أصدقاؤه بنفسه . رغم ك ماتعرض له من مطاردات ومضايقات ، ومآسي وأحزان ، لم يتوقف " سرور " حتى نهاية حياته عن نشر قصائده، ولعل أهمهم على الإطلاق التي كتبها في نهاية حياته ، "كس أميات" التي يخففها البعض ب"بالأميات" ، التى لم تنشر ، حتى يوم 24 أكتوبر من عام 1978 - يوم وفاته - ، لينشرها ابنه " شهدي " بعدها بسنوات عديدة على الإنترنت ، مقرباً بذلك الجميع من سرور، ومبقياً على موقف السلطة من أبيه ومنه ، فيضطر " شهدي " للهروب للخارج، ويصبح "سرور" بعد أن كان شاعر طبقة معينه، لا يعرفه إلا المثقفون يصبح شاعر العصر، يعبر عن المهمشين، ويتحدث عن الثورة، ليتشهد بأشعار الشباب والكبار، وهم يعلمون أنه ذلك الحاضر في الغياب .