اختار اليوناني نيكوس كازنتزاكيس أن يكون حرًا.. عاش أعوامه التي تخطت النصف قرن بما يُقارب ربُعًا آخر وهو يبحث عن الحقائق في كل صنوف الفلسفة.. تحدى الكنيسة عندما كتب عن "الإغواء الأخير للمسيح"، وأنجز رائعته "زوربا اليوناني"، فيما أكمل أوديسة هوميروس الخالدة.. تنقل بين بلدان العالم ومذاهبه وحضاراته المختلفة؛ ليحظى في نهايته بغضب الكنيسة التي رفضت أن يُفن في قبر، فانتهى إلى جدار ترك عليه كلمته الأخيرة "أنا حر". سيرته: عندما ولد كازانتزاكيس عام 1883 في هيراكليون، لم تكن جزيرة كريت قد انضمت بعد إلى الدولة اليونانية الحديثة التي أنشئت عام 1832، وكانت لا تزال تحت حكم الإمبراطورية العثمانية؛ وعندما بلغ الحادية والعشرين درس القانون في جامعة أثينا، ثم ذهب إلى باريس في عام 1907 لدراسة الفلسفة، وبعد عودته إلى اليونان، بدأ ترجمة الأعمال في الفلسفة. تنقل كازانتزاكيس بين باريس، برلين، إيطاليا، روسيا، إسبانيا، قبرص، ايجينا، مصر، تشيكوسلوفاكيا، الصين، واليابان؛ وأثناء وجوده في برلين -حيث كان الأوضاع السياسي المتفجرة- اكتشف الشيوعية، وأصبح معجبا بفلاديمير لينين، وقال إنه لم يصبح شيوعيًا، ولكنه زار الاتحاد السوفيتي والتقي المعارضة اليسارية والكاتب فيكتور سيرج، وشهد صعود جوزيف ستالين، وأصيب بخيبة أمل مع الشيوعية على النمط السوفيتي في هذا الوقت، تم استبدل بمعتقداته الوطنية القديمة تدريجيا أيديولوجية أكثر عالمية. في عام 1945، أصبح كازانتزاكيس زعيم حزب صغير يساري غير شيوعي، ودخل الحكومة اليونانية وزيرًا بدون حقيبة. واستقال من هذا المنصب في العام التالي، وفي العام التالي رشحته جمعية الكتاب اليونانية وانجيلوس سيكيليانوس للحصول على جائزة نوبل للآداب، وفي عام 1957، خسر الجائزة أمام ألبير كامو بفارق صوت واحد، وقال كامو في وقت لاحق أن كازانتزاكيس يستحق الشرف مائة مرة أكثر من نفسه. وظائفه: تطوع عام 1912 في الجيش اليوناني في حرب البلقان، ثم عُيِّنَ عام 1919 مديرًا عامًّا في وزارة الشئون الاجتماعية في اليونان، وكان مسؤولًا عن تأمين الغذاء لنحو 15 ألف يوناني وإعادتهم من القوقاز إلى اليونان، لكنه استقال بُعيد ذلك من منصبه؛ عمل في السياسة لفترة قصيرة، ثم عُيِّن وزيرًا في الحكومة اليونانية عام 1945، ثم مديرًا في اليونسكو عام 1946، وكانت وظيفته العمل على ترجمة كلاسيكيات العالم لتعزيز جسور التواصل بين الحضارات، خاصة بين الشرق والغرب؛ واستقال بعد ذلك ليتفرغ للكتابة. فلسفته: إبان فترة دراسة كازنتزاكيس في باريس، تأثَّر بالفيلسوف والشاعر الألماني نيتشه، الذي غيَّر نظرته إلى الدين والحياة والله، ودعاه إلى التمرد على أفكاره ومعتقداته القديمة كلِّها، حتى نظرته إلى الفنِّ تغيرت، وأدرك أن دور الفن يجب ألا يقتصر على إضفاء صورة جميلة وخيالية على الواقع والحياة، بل إن مهمته الأساسية هي كشف الحقيقة، حتى لو كانت قاسية ومدمِّرة؛ ورغم أنتقاده الدائم للأديان، إلا أنه لم يكن ينتقد رجال الدين كأفراد، وإنما ينتقد استخدام الدين كغطاء للتهرب من المسئولية والعمل الفعَّال. وبعد مغادرته باريس سافر إلى فيينا، وهناك بدأ مرحلة جديدة من حياته من خلال التعرف إلى بوذا، حيث عكف على دراسة المناسك والتعاليم البوذية، وحسب وجهة نظره أن دين المسيح كان ينظر إلى الحياة نظرةً مبسَّطة ومتفائلة جدًّا، على عكس بوذا الذي ينظر إلى الكون بعين ثاقبة وعميقة. لقد أحب بوذا بوصفه معلمًا ومرشدًا روحيًّا ومخلِّصًا؛ وكان بوذا في نظره المرشد الذي نظَّم فوضى أسئلته، وأعطاه السكينة والسلام الداخليين. أعماله: كتب كازنتزاكيس "الأوديسة" في ملحمة مؤلَّفة من 33.333 بيتًا، وقد بدأها من حيث انتهت أوديسة هوميروس، وقد اعتُبِرَ هذا العملُ ثورةً في مجال المفردات اللغوية والأسلوب، كما أظهر مدى عمق معرفته بعلم الآثار والأنثروبولوجيا، كما كتب وترجم العديد من الأعمال الأدبية المهمة، منها "رياضات روحية: مخلِّصو الله، الثعبان والزنبقة، الحرية أو الموت، فقير أسيزي، الأخوة الأعداء، زوربا اليوناني، الإغواء الأخير للمسيح، الكوميديا الإلهية لدانتي، الإسكندر الأكبر -كتاب للأطفال-، المسيح يصلب من جديد، تقرير إلى جريكو"، وقد نشرتْ زوجتُه هذا الأخير بعد وفاته في عام 1961 من خلال جمع رسائل كازنتزاكيس ومذكراته. تعرضتْ بعضُ أعمال كازنتزاكيس للرقابة، ومُنعَ نشرُها في بعض دول العالم، إلا أن كتاب "الإغواء الأخير للمسيح" الذي نُشِرَ عام 1951 اعتُبِرَ الأكثر إثارة للجدل، إلى درجة أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية منعت الكتاب؛ كما عمد البابا آنذاك إلى إدراج كتابه ضمن لائحة الكتب الممنوعة في الفاتيكان عام 1954 والذي أثار الجدل ذاته بعد أن قام المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي بإخراج هذا العمل في ثمانينيات القرن الماضي. في أواخر عام 1957، وعلى الرغم من معاناته من سرطان الدم، ذهب كازنتزاكيس في رحلة إلى الصين واليابان، وسقط مريضًا في رحلة عودته، ثم تم نقله إلى فرايبورج بألمانيا، حيث توفي وقد بلغ الرابعة والسبعين؛ وتم دفنه على الجدار لمحيط في مدينة هيراكليون بالقرب من بوابة خانيا، لأن الكنيسة الأرثوذكسية رفضت دفنه في مقبرة، وطلب أن يُكتب على قبره عبارة من التراث الهندي هي "لا آمل في شيء.. لا أخشى شيئا.. أنا حر"؛ وقد خُصِّصَ له متحفٌ صغير في جزيرته كريت احتوى على أشيائه الشخصية ومجموعة فيِّمة من المخطوطات والرسائل، إضافة إلى النسخ الأولىة لكتبه، وصور ومقالات كُتِبَتْ عن حياته وأعماله.