ما يردده البعض من ضرورة استئناف التفاوض مع صندوق النقد لا يحمل خيرًا لمصر. وما يحاول البعض تمريره من وجود نية لدى الحكومة الحالية لاستئناف المفاوضات مع المؤسسة الدولية ليس صحيحًا. رُبما هو مجرد جس نبض للمجموعة الضاغطة لاستئناف التفاوض، وطبقًا للشروط السابق طرحها فإن الاتفاق مع الصندوق له آثار اجتماعية سلبية. فى الزيارة الأخيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى إلى نيويورك تجددت الأنباء والأطروحات بشأن استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولى، وتكرر طرح بعض الاقتصاديين لضرورة التوصل إلى اتفاق مع المؤسسة الدولية للحصول على قرض لسد فجوة التمويل، والقول بأنه شهادة ثقة دولية. وكانت أحد مُبررات الدعوة للعودة للصندوق قيام مصر بإصدار سندات دولارية بقيمة 1.5 مليار دولار وبفائدة تتجاوز 5٪، بينما تبلغ فائدة قروض صندوق النقد نحو 1.25٪. المشكلة الرئيسية فى الاتفاق مع الصندوق هى الشروط التى يضعها والتى تمثل تدخلًا مباشرًا فى السياسة الاقتصادية والمالية للبلد المقترض منه، وهو طبقًا لشهادة عالم الاقتصاد الشهير «استجليتز» يُركز على إصلاح السياسات المالية، ويتجاهل تمامًا الجوانب الاجتماعية التى تتأثر سلبًا نتيجة توصياته. وهذا ما دفع القيادة السياسية إلى التأكيد مرارًا على تجنب الاتفاق مع الصندوق، رغم أن الاقتراض منه أقل تكلفة من أى اقتراض آخر سواء عن طريق السندات أو الاقتراض من البنوك المحلية. وطبقًا لمصادر اقتصادية فإن صندوق النقد سعى عدة مرات لاستعادة المفاوضات مع مصر لإقراضها، وكانت المرة الأخيرة قبل أيام من زيارة الرئيس لنيويورك عندما أصدر الصندوق تقريرا أشاد فيه بالاقتصاد المصرى واعتبره متطورا ويسير بخطى إيجابية، بل وحمل توقعات بمعدل نمو يتجاوز ال5٪ المتوقعة من جانب الحكومة نفسها، وهو ما اعتبره كثيرون إعادة اتصال ودعوة للاتفاق. وكانت كريستين لاجارد، المدير التنفيذى للصندوق، قد صرحت بعد أسابيع قليلة من مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى بأن «الصندوق على استعداد تام لاستئناف التفاوض مع مصر، وأن الأمر لا يحتاج سوى مكالمة تليفون». وكانت مصر قد أغلقت الباب فى وجه الصندوق، والذى ينظر إليه كثير من الساسة باعتباره أداة هيمنة غربية، مرتين الأولى فى يوليو عام 2011 بقرار سيادى من المشير محمد حسين طنطاوى، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقتها، والذى كان يرى أن الاتفاق يؤدى إلى قيام الصندوق بتقديم توصيات وتوجيهات قد تؤثر اجتماعيًا على معيشة محدودى الدخل. أما الثانية فكانت على يد الرئيس المؤقت عدلى منصور، والذى قام بتأجيل المباحثات عدة شهور حتى أنهى مهمته كرئيس مؤقت، ولم يرد اتخاذ قرار مصيرى مثل ذلك. لكن بين المرتين وتحديدًا فى عهد حكومة هشام قنديل التابعة للإخوان كانت المباحثات المُكثفة هى عنوان المرحلة وقدم الصندوق طلبات اعتبرها الإخوان صعبة التنفيذ حيث تضمنت: أول هذه الشروط كان تخفيض العجز فى الموازنة البالغ 200 مليار جنيه والبالغة نسبته 12.5٪ من الناتج المحلى الإجمالى إلى 9.5٪ من الناتج الإجمالى من خلال برنامج اقتصادى واضح ومعلن وموافق عليه من المجتمع. وثانيها وهو أخطر الشروط تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، تحريرًا كاملًا، وهو ما يعنى وقف أى تدخل من جانب البنك المركزى المصرى لضخ سيولة دولارية فى السوق المصرفية بهدف وقف أى زيادات فى أسعار صرف العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار، وما يستتبع ذلك من إلغاء نظام العطاءات المعمول به من جانب البنك المركزى وترك سعر الصرف لآليات العرض والطلب. وهو فى الواقع ما يمثل مغامرة كبرى نظرًا لموجة التضخم الشديدة التى قد تنجم عن ذلك التحرير. وثالث تلك الشروط هو تحرير التجارة الخارجية لمصر بما يسمح بتدفق السلع سواء استيراد أو تصدير، وإلغاء أى حواجز أو معوقات غير جمركية على تدفق السلع مثل رسوم الحماية «safeguard» أو الحجر البيطرى، والحجر الزراعى. وكان موقف النظام المصرى بعد 30 يونيو يرتكز على عدم التورط فى أى اتفاق مع الصندوق، إلا بعد تحقيق إصلاح اقتصادى حقيقى من خلال برنامج وطنى، وهو ما عبر عنه وقتها وزير المالية، الدكتور أحمد جلال، الذى قال إن صندوق النقد الدولى يُركز فى توصياته على فكرة الإصلاح المالى بغض النظر عن مدى سيادة وتحقق فكرة العدالة الاجتماعية. وفى رأى الخبير الاقتصادى، الدكتور فخرى الفقى، والذى عمل لعدة سنوات بصندوق النقد الدولى، فإن الإصلاحات الاقتصادية التى جرت فى السنوات الأخيرة ستؤتى ثمارها قريبًا، وأنه لا توجد حاجة مُلحة للدخول فى مفاوضات مع صندوق النقد للحصول على قرض، حتى مع الإشارة إلى أن فائدة قروض الصندوق مميزة كثيرًا عن فائدة السندات أو أى وسيلة اقتراض خارجى. ويشير إلى أن الدين الخارجى لمصر شهد، طبقًا للبيانات الرسمية، تراجعًا واضحًا، حيث انخفض إلى نحو 40 مليار دولار. ويرى «الفقى» أن قيام مصر بسداد التزاماتها فى الديون الخارجية بشكل منتظم، وتمكنها من سداد الوديعة القطرية البالغة نحو 6 مليارات دولار يؤكد تحقيق الاقتصاد نتائج جيدة، وهو ما يعنى أننا لسنا فى حاجة ماسة للصندوق.