السواقى في محافظة الفيوم تحديدا، ليست مجرد أداة للزراعة ولا هي أيقونة من أيقونات الماضى التي نسجت حولها الأساطير، وترك العشاق ذكرياتهم وأحلامهم ودموعهم على جانبيها، السواقى في الفيوم هي قطعة من الفن والحياة، هدير السواقى في تلك المحافظة الصغيرة الجميلة الفقيرة، ترتيل شيخ عجوز يختلط النحيب في صوته بالخشوع، وترنيمة راهب في دير بعيد يتألم لصلب المسيح ويبتهج لقيامته، لا يمكنك أن تفصل بين الفيوم وسواقيها، فهى المحافظة الوحيدة التي احتفظت بتلك الأداة القديمة حتى بعد ظهور وسائل الرى الحديثة، أصبحت الساقية جزءًا من نسيجها حتى أنها صارت شعارًا للمحافظة ومقصدًا لكل زائريها. وربما لا يعرف الكثيرون أن حكاية «السبع سواقى الشهيرة» ليست هي كل سواقى الفيوم، ففى أنحاء المحافظة تنتشر نحو 357 ساقية، أشهرها السواقى السبع التي تم تصويرها في العديد من الأفلام السينمائية، والسواقى الأربع التي تحتل أشهر ميادين المحافظة «ميدان السواقى» الذي غالبا ما يقصده زائرو المحافظة لمشاهدة سواقيه، وشراء المصنوعات اليدوية التي تشتهر بها المحافظة وتباع على أرصفة الميدان. ولأننا متخصصون في صناعة القبح ومعادون لكل ما هو جميل أصبحت السواقى التي كانت مصدرا للجمال والبهجة في المحافظة مكانا مشوها تحيط بها القمامة وتحتلها الحيوانات الضالة والحشرات، وما زاد الطين بلة أن حرفة صناعة السواقى الخشبية في طريقها للانقراض، فلم يتبق من صناعها سوى ورشة صغيرة تقبع في زاوية فقيرة من زوايا المحافظة، لا تجد من يدعمها أو يحافظ على ذلك التراث المهدد بالاندثار. «سبع سواقى كانت بتنعى.. على اللى نابها من المظالم.. فضلت حياتها تدور وتدعى.. الله أكبر عليك يا ظالم».. هكذا كتب صلاح جودت وغنت شادية، فما تبعثه أجواء الريف، من شجن وجلسات السمر، بعد كدح طويل من الفلاحة والسقىً والغرس والقلع، ينتهى بصخب أكبر، ساقية في الفيوم بقرية سيلا بعزبة المدنى، التي لا تكف عن «الزعيق» بفعل الصدأ الذي أكل تروسها، وتظل تدور وتدور، كدوران الليل والنهار لا تكل ولا تمل عن رفع المياه، لتروى الأراضى العطشى، وتجلب الخير لأهل القرية التي بنوها بمجهوداتهم الذاتية، تحت إشراف أفضل نجارى الفيوم، بل وآخر من تبقى منهم، من المتخصصين في صناعة السواقى، التي شارفت على الاندثار، لارتباطها بعائلة «ربيع»، التي تسلمتها جيلا بعد جيل، ساقية سيلا الحزينة هي إحدى سواقى الفيوم التي تعانى الإهمال. الطريق إلى «سيلا البلد» لم يكن سهلا، فلا عنوان ولا إشارات مرورية، إلا من خط سير المواصلات المتواضعة التي تحمل الركاب إليها الجرارات والحمير وبقايا من أسفلت متآكل نتيجة عدم تجديد رصفها منذ عشرات السنين، هي معالم ذلك الطريق النائى»، سيارات سريعة، تخلف وراءها خطًا من غبار، يعكر صفو ونقاء هواء الطبيعة.. النخيل بطوله الفارع، يصطف على جانبى الطريق.. مزارعون تحملهم بهائمهم إلى الحقول، وآخرون عائدون إلى منازلهم وهم يقودون جراراتهم الزراعية.. وأطفال يلعبون أمام بيوت بسيطة لا تتخطى الطابقين.