عاش العالم في مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات حالة من الخوف والهلع مع انطلاق الشرارة الأولى للأزمة المالية العالمية التي بدأت مع إعلان بنك الأعمال الأمريكي “,”ليمان براذرز“,” إفلاسه يوم 15 سبتمبر 2008 وامتدت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوروبية والآسيوية والخليجية والدول النامية، وكانت هذه أسوأ أزمة اقتصادية شهدها العالم بعد أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.. فهل تلوح في الأفق بوادر أزمات عالمية جديدة؟ فقد بدأت بوادر هذه الأزمة مع قيام المؤسسات المالية بإقراض أشخاص يرغبون في شراء عقار على أن يتم سداد القرض على أقساط مضافا إليها فائدة الاقتراض وبالتالي يكون الضمان هنا هو الأصل (العقار) بمعنى إذا لم يستطع المقترض سداد الأقساط لعدد معين أو عدم مقدرته بشكل كلي في حالة تعثره على السداد فتقوم المؤسسة المالية بالحجز على العقار . وفي منتصف عام 2006، بعد أن وصلت أسعار المنازل إلى ذروتها وتزايدت المخاوف بشأن ارتفاع مستويات التضخم داخل الاقتصاد الأمريكي وارتفاع أسعار الفائدة, تراجع الطلب على شراء المنازل وبالتالي اتجاه الأسعار نحو الانخفاض, وبدأ الكثير من المقترضين غير قادرين على سداد الديون وبالتالي قيام البنك بالحجز على العقار موضوع القرض . ومن هنا، انزلقت الكثير من المؤسسات المالية و البنوك الاستثمارية نحو الإفلاس هذا بالإضافة إلى المزيد من الخسائر التي تكبدتها نتيجة الإقراض لذوي الملاءة المالية المتدنية, وأصبحت البنوك تواجه مشكلة سيولة حادة حيث تجمدت الأموال في شكل عقارات أو ما يطلق عليه “,”الأموال الخرسانية “,” . ففي عام 2007، حققت شركتا “,”فاني ماي“,” و “,”فريدي ماك“,” للرهن العقاري خسائر فادحة من جراء الاستثمار في الديون الرديئة, وبحلول 7 سبتمبر 2008 تم وضع الشركتين تحت وصاية الخزانة الأمريكية طيلة الفترة التي تحتاجها لإعادة هيكلة النظام المالي لديها مع التدخل بامتصاص نحو 200 مليار دولار أمريكي من ديونها . وبعدها بحوالي أسبوع واحد أعلن بنك “,”ليمان براذر“,” إفلاسه ليشعل بذلك فتيل الانهيارات المتلاحقة في الاقتصاد الأمريكي على كافة المستويات، وتراجعت السيولة لدى البنوك وسادت حالة من الخوف من عدم القدرة على سداد الديون، وهو ما أدى إلى تشديد القيود على الائتمان وتباطؤ الأنشطة الاقتصادية, حيث لم تستطع الشركات الاقتراض من البنوك لسداد التزاماتها قصيرة الأجل . وأصبحت شركات عملاقة مهددة بالإفلاس وبالتالي سقوط الشركات القائدة في بورصة الأوراق المالية وهو ما دفع المستثمرين إلى التخلص من الاستثمار في هذه الشركات وبالتالي الانهيار المدمر لتلك البورصات, فضلا عن تسريح الكثير من العمالة لعدم قدرة الشركات على سداد الأجور مع محاولة تخفيض النفقات للحد من الخسائر الحادة . ولجأت الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأخرى وقتها إلى سياسات ترى أنها المخرج من الأزمة المالية وذلك من خلال إنقاذ المؤسسات المتعثرة وذلك بضخ الأموال إليها والاستحواذ على جزء من أصولها يتجاوز ما قامت الحكومات بضخه . وقام البنك الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأمريكي) بخفض أسعار الفائدة بنحو ثلاثة أرباع النقطة لتصل إلى نسبة 5ر3% ثم توالت التخفيضات إلى أن وصلت في نهاية عام 2008 إلى 1% ثم إلى المستويات الصفرية التي تتراوح من صفر إلى 25ر0%, وذلك محاولة لدعم وتحفيز الائتمان والحث على الاستثمار والإنفاق, هذا بجانب إعلان الحكومة الأمريكية عن خطة مالية تقدر بنحو 700 مليار دولار لدعم السيولة لدى البنوك وفي الأسواق وأطلق عليه برنامج شراء الأصول المضطربة . وبعد كل هذه الإجراءات والسياسات المالية التي اتبعتها الولاياتالمتحدة والدول التي ألمت بها الأزمة، هل نستطيع التأكيد من انتهاء الأزمة المالية العالمية بعد مرور خمس سنوات عليها؟ أم أنها لازالت تلقي بظلالها على اقتصادات بعض الدول؟ أم أن هناك أزمات اقتصادية عالمية جديدة تلوح في الأفق؟ . ففي قراءة سريعة لرؤى وتوقعات التكتلات الاقتصادية وبعض المؤسسات الكبرى، نجد أن البيان الختامي الذي أعلنته مجموعة دول العشرين رسميا في ختام اجتماعاتها في بداية الشهر الحالي, أكد أنه ورغم تحسن الاقتصاد العالمي فعليا بصورة كبيرة مؤخرا, وأنه بالفعل يتعافى بصورة لا ينكرها أحد, إلا أن الوقت ما زال مبكرا جدا لإعلان أن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية قد انتهت, فالواقع الصريح يؤكد أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لم تنته بعد، وهو نفس ما شمله البيان الختامي لاجتماع وزراء مالية دول المجموعة بعد سلسلة من الاجتماعات خلال شهر يوليو الماضي . وقد أكدت مجموعة دول العشرين أن أسواق واقتصاديات العديد من الدول الناشئة لا تزال تواجه بعض المشكلات, ولكنها أكدت أيضا أن حل تلك المشكلات هو أمر خاص بحكومات وإدارات تلك الدول نفسها وليس لمجموعة العشرين دخل رئيسي أو مباشر فيه. وترى مؤسسة “,”برايس ووترهاوس كوبر“,”، من أكبر أربع شركات محاسبة وخدمات مهنية في العالم، أن النظام المصرفي والمالي العالمي لا يزال ينتظر دورة أزمات جديدة، ما لم تتخذ الحكومات والسلطات المالية الدولية إجراءات جريئة وحاسمة لتعديل أسس عملها التي قادت في النهاية إلى الأزمة المالية الأخيرة التي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي بعد . واستندت في توقعاتها إلى تصرفات أغلب البنوك والمؤسسات المالية التي استخدمت الأموال، التي سارعت الحكومات بضخها من ميزانياتها لإنقاذ مصارف ومؤسسات مالية من الإفلاس، في مزيد من المضاربات لتحقيق أرباح سريعة تضبط بها دفاترها، وهذا ما خلق “,”أغنياء أزمة“,” في الواقع، كما استفادت صناديق تحوط من انهيار “,”ليمان براذرز“,” في بداية أزمة عام 2008 . وترى المؤسسة أن الاقتصادات الرئيسية كانت تواصل ضخ هذه الأموال عبر برامج تسمى “,”التيسير الكمي“,” أو “,”الإقراض الميسر“,” على أمل أن تستخدم المصارف والمؤسسات المالية تلك الأموال الحكومية الرخيصة (قليلة تكلفة الفائدة أو بدون) لإقراض الأعمال وتنشيط النمو الاقتصادي أو على الأقل ضبط أوضاعها المالية المتعثرة، وذلك بالإضافة إلى أن هذه الحكومات وفرت هذه الأموال من دافعي الضرائب أو بالاقتراض عبر سندات خزانة سيادية أو طبع النقد وهو ما يزيد من حدة الأزمة . وتقول “,”إذا كانت الأزمة المالية العالمية التي أدت إلى شطب ما يقرب من 18 تريليون دولار من النظام المالي والمصرفي العالمي، فإن اقتصادات العالم لم تتحسن بالقدر الذي يعوض أي جزء من هذا على الإطلاق، وأن ما حدث هو مجرد علاجات للأعراض دون التعامل مع أصل العلة الحقيقية والتي أدت إلى خلق مشكلات جديدة خاصة في العامين الأخيرين تمثلت في أزمة الديون السيادية للحكومات وانكشاف النظام المصرفي عليها “,”. وفيما يتعلق بنمو الاقتصادات الكبرى، توقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3ر3 في المائة خلال العام الحالي مقابل 2ر3 في المائة العام الماضي، متوقعات نموه بنسبة 4 في المائة خلال 2014 . كما توقع الصندوق نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 9ر1 في المائة خلال العام الحالي ، وذلك بعد نموه بنسبة 2ر2 في المائة العام الماضي، في حين توقع الصندوق أن يصل النمو إلى 3 في المائة العام المقبل . ومن بين العوامل التي عززت هذه التكهنات، قدرة الولاياتالمتحدة على تلافي السقوط في المنحدر المالي، والذي يعني الخفض التلقائي للإنفاق الحكومي، فضلا عن توسيع برنامج التيسير النقدي إضافة إلى تحسن وضع سوق العقارات، وهو ما أدى إلى تحسين توقعات النمو، ولكن يرى التقرير أن الخفض التلقائي للإنفاق إضافة إلى المشكلات المتعلقة بالموازنة الأمريكية سوف تلقي بظلالها على الطلب عند المستهلكين الأمريكيين وهو ما قلص التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأمريكي . وبالنسبة لمنطقة اليورو، توقع الصندوق نمو الاقتصاد بنسبة سالب 3ر0 في المائة خلال 2013 مقابل سالب 6ر0 في المائة العام الماضي، في حين توقع نموه بنسبة 1ر1 في المائة خلال عام 2014، أما الاقتصاد الصيني فقد توقع الصندوق نموه بنسبة 8 في المائة العام الحالي و2ر8 في المائة العام المقبل . وفيما يتعلق بالاقتصاد الياباني، توقع صندوق النقد الدولي نموه بنسبة 6ر1 في المائة خلال العام الحالي وبنسبة 4ر1 في المائة خلال العام المقبل . ويظل التساؤل الأكثر إلحاحا خلال المرحلة الحالية هو مدى تأثر الاقتصاد العالمي بالاضطرابات السياسية التي تشهدها مناطق عده من العالم واحتمالات توجيه الولاياتالمتحدة ضربة عسكرية لسوريا، وهل ستكون هذه شرارة لحدوث أزمات جديدة تضرب الاقتصاد العالمي أم أن الحكومات تعلمت الدروس من الأزمة العالمية التي مر عليها اليوم خمس سنوات للتعامل معها بشكل حاسم وفي وقت أقصر . أ ش أ Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA