تحل اليوم، ذكرى وفاة المناضل الكبير محمد كريم، حاكم مدينة الإسكندرية الذي قتله القائد الفرنسي نابيلون بونابرت إبان الحملة الفرنسية على مصر. تعرضت مصر على مر تاريخها لحملتين صليبيتين في عهد الدولة الأيوبية، وكانت الحملتان تقودهما فرنسا، الأولى فقد عرفت بالحملة الصليبية الخامسة، وكانت بقيادة "جان دي برس"، وأما الأخرى فقد عرفت بالحملة الصليبية السابعة، وكانت بقيادة "الملك لويس التاسع" ومنيت الحملتان بهزيمة مدوية عامي 618 ه - 1221م و648 ه - 1250م وخرجتا من مصر، إلا أن احتلال مصر كانت رغبة قوية لدى فرنسا، وبقيت أملا لسياستها وقادتها ينتظرون الفرصة السانحة لتحقيقها متى سنحت لهم، وفي سبيل ذلك يبعثون رجالهم إلى مصر على هيئة تجار أو سياح أو طلاب ودارسين، ويسجلون دقائق حياتها في تقارير يرسلونها إلى قادتهم. ولما بدأ الضعف يتسرب إلى الدولة العثمانية أخذت فرنسا تتطلع إلى المشرق العربي مرة أخرى، وكانت تقارير رجالهم تحرضهم بأن اللحظة المناسبة قد حان أوانها ولا بد من انتهازها. وكشفت تقارير سانت بريست سفير فرنسا في الأستانة منذ سنة 1768م والبارون دي توت والمسيو "مور" قنصل فرنسا في الإسكندرية ضعف الدولة العثمانية، وأنها في سبيلها إلى الانحلال، ودعت تلك التقارير إلى ضرورة الإسراع باحتلال مصر، غير أن الحكومة الفرنسية ترددت ولم تأخذ بنصائحهم، احتفاظًا بسياستها القائم ظاهرها على الود والصداقة للدولة العثمانية. قبل قيام الحملة الفرنسية على مصر، قدم "شارل مجالون" القنصل الفرنسي في مصر، تقريره إلى حكومته في 9 فبراير 1798م، يحرضها على ضرورة احتلال مصر، ويبين أهمية استيلاء بلاده على منتجات مصر وتجارتها، ويعدد لها المزايا التي ينتظر أن تجنيها فرنسا من وراء ذلك. وبعد أيام قليلة من تقديم تقرير مجالون، تلقت حكومة فرنسا تقريرًا آخر من- تاليران - وزير الخارجية، ويحتل هذا التقرير مكانة كبيرة في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، حيث تعرض فيه للعلاقات التي قامت من قديم الزمن بين فرنسا ومصر وبسط الآراء التي تنادي بمزايا الاستيلاء على مصر. وقدم الحُجج التي تبين أن الفرصة قد أصبحت سانحة لإرسال حملة على مصر وفتحها، كما تناول وسائل تنفيذ مشروع الغزو من حيث إعداد الرجال وتجهيز السفن اللازمة لحملهم وخطة الغزو العسكرية، ودعا إلى مراعاة تقاليد أهل مصر وعاداتهم وشعائرهم الدينية، وإلى استمالة المصريين وكسب مودتهم بتبجيل علمائهم وشيوخهم واحترام أهل الرأي منهم، لأن هؤلاء العلماء أصحاب مكانة كبيرة عند المصريين. وكان من أثر التقريرين أن نال موضوع غزو مصر اهتمام حكومة الإدارة التي قامت بعد الثورة الفرنسية، وخرج من مرحلة النظر والتفكير إلى حيز العمل والتنفيذ، وأصدرت قرارها التاريخي بوضع جيش الشرق تحت قيادة نابليون بونابرت في 12 أبريل 1798م. وتضمن القرار مقدمة وست مواد، اشتملت المقدمة على الأسباب التي دعت حكومة الإدارة إلى إرسال حملتها على مصر، وفي مقدمتها عقاب المماليك الذين أساءوا معاملة الفرنسيين واعتدوا على أموالهم وأرواحهم، والبحث عن طريق تجاري آخر بعد استيلاء الإنجليز على طريق رأس الرجاء الصالح وتضييقهم على السفن الفرنسية في الإبحار فيه، وشمل القرار تكليف نابليون بطرد الإنجليز من ممتلكاتهم في الشرق، وفي الجهات التي يستطيع الوصول إليها، وبالقضاء على مراكزهم التجارية في البحر الأحمر والعمل على شق قناة برزخ السويس. جرت الاستعدادات لتجهيز الحملة على خير وجه، وكان قائد الحملة الجنرال نابليون يشرف على التجهيز بكل عزم ونشاط ويتخير بنفسه القادة والضباط والعلماء والمهندسين والجغرافيين، وعني بتشكيل لجنة من العلماء عرفت باسم لجنة العلوم والفنون وجمع كل حروف الطباعة العربية الموجودة في باريس لكي يزود الحملة بمطبعة خاصة بها. لقد تمت التعمية على الجهة التي يقصدها الأسطول حتى إن الرجال كلهم- تقريبا- والبالغ عددهم 45 ألفًا لم يعلموا وجهة الأسطول، وفي بيان له سمات خاصة وجهه نابليون "لجيش الشرق" الجديد أشار إليه بأنه مجرد جناح للجيش الفرنسي المعد لغزو إنجلترا، وطلب من البحارة والجنود أن يثقوا به رغم أنه لا يستطيع حتى الآن أن يحدد المهام الموكلة إليهم، وأبحرت الحملة من ميناء طولون في 19 مايو 1798م وتألفت من نحو 35 ألف جندي، تحملهم 300 سفينة ويحرسها أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة، وفي طريقها إلى الإسكندرية استولت الحملة على جزيرة مالطة من فرسان القديس يوحنا آخر فلول الصليبيين. وفي 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطا، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطا وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية، ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدًا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال، وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعًا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية، وتوجه من هناك مباشرة إلى الإسكندرية، وقد عانى نابليون طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبًا، وفي هذه الأثناء درس القرآن. وعلى الرغم من السرية التامة التي أحاطت بتحركات الحملة الفرنسية وبوجهتها فإن أخبارها تسربت إلى بريطانيا العدو اللدود لفرنسا، وبدأ الأسطول البريطاني يراقب الملاحة في البحر المتوسط، واستطاع "نيلسون" قائد الأسطول الوصول إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة الفرنسية بثلاثة أيام، وأرسل بعثة صغيرة للتفاهم مع السيد "محمد كريم" حاكم المدينة وإخباره أنهم حضروا للتفتيش عن الفرنسيين الذين خرجوا بحملة كبيرة وقد يهاجمون الإسكندرية التي لن تتمكن من دفعها ومقاومتها. لكن السيد "محمد كريم" ظن أن الأمر خدعة من جانب الإنجليز لاحتلال المدينة تحت دعوى مساعدة المصريين لصد الفرنسيين، وأغلظ القول للبعثة فعرضت أن يقف الأسطول البريطاني في عرض البحر لملاقاة الحملة الفرنسية، وأنه ربما يحتاج للتموين بالماء والزاد في مقابل دفع الثمن، لكن السلطات رفضت هذا الطلب لتترك الأسطول الإنجليزي للمواجهة مع الحملة في معركة أبي قير البحرية والتي انتهت بتدمير قطع الأسطول الفرنسي لتترك الحملة في مصر بلا اتصال بفرنسا. وتَوقُّعت بريطانيا أن تكون وجهة الحملة الفرنسية إلى مصر العثمانية دليلٌ على عزمها على اقتسام مناطق النفوذ في العالم العربي وتسابقهما في اختيار أهم المناطق تأثيرًا فيه، لتكون مركز ثقل السيادة والانطلاق منه إلى بقية المنطقة العربية، ولم يكن هناك دولة أفضل من مصر لتحقيق هذا الغرض الاستعماري. وصلت الحملة الفرنسية إلى الإسكندرية ونجحت في احتلال المدينة في 2 يوليو 1798م، بعد مقاومة من جانب أهلها وحاكمها السيد "محمد كريم" دامت ساعات. استولى نابليون على أغنى إقليم في الإمبراطورية العثمانية، وطبقًا للبروباجندا الحربية أدعى أنه صديقًا للسلطان العثماني، وأدعى أيضًا أنه قدم إلى مصر للاقتصاص من المماليك لا غير، باعتبارهم أعداء السلطان، وأعداء الشعب المصري. وأدرك نابليون قيمة الروابط التاريخية الدينية التي تجمع بين المصريين والعثمانيين تحت لواء الخلافة الإسلامية، فحرص على ألا يبدو في صورة المعتدي على حقوق السلطان العثماني، فعمل على إقناع المصريين بأن الفرنسيين هم أصدقاء السلطان العثماني، غير أن هذه السياسة المخادعة التي أراد نابليون أن يخدع بها المصريين ويكرس احتلاله للبلاد، فلم ينخدعوا بها وقاوموا الاحتلال، حتى تم القبض على محمد كريم حاكم الإسكندرية وإعدامه، وبدأ نابليون الزحف إلى القاهرة.