تنطوي الجولة الأسيوية الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي، على أهمية كبيرة في مجالات متعددة فيما تشكل هذه الجولة التي بدأت بسنغافورةفالصين حاليا، وتختتم باندونيسيا فرصة ثمينة للاستفادة من دروس نهضوية وتلفت الأنظار في مصر لتجارب إيجابية وخبرات ثقافية ناجحة في هذه الدول. وإندونيسيا التي يختتم الرئيس عبد الفتاح السيسي، بزيارتها المرتقبة جولته الأسيوية الحالية يتجاوز عدد سكانها 230 مليون نسمة أغلبيتهم من المسلمين الذين يشكلون أكبر عدد للمسلمين في أي بلد في العالم ويقدمون نموذجا مضيئا "لاحترام الآخر" في مجتمع يدرك أن تنوعه هو مكمن قوته. ويتجاوز عدد اللغات واللهجات المحلية في اندونيسيا 260 لغة ولهجة محلية ويتوزع السكان على 240 جماعة عرقية فيما ترفع هذه الدولة شعار "الوحدة في التنوع" وتمارسه في الواقع وهو شعار يبدو مستمدا من الثقافة الآسيوية بتلك المنطقة والتي تميل نحو صيغ التعايش والتعاطي مع الآخر واحترامه أيا كانت ديانته أو معتقداته. ويرى بعض المعنيين بالشأن الاندونيسي والمطلعين على الواقع في هذه الدولة أن شعار "الوحدة في التنوع" يشكل ثقافة حياة كاملة تتلاءم مع التنوع الكبير بين الأعراق وتتجلى في التسامح والوجوه المبتسمة والشعور بالأمان بقدر ما تستخلص الجوهر الصحيح للعقيدة الإسلامية. ومن هنا فالتجربة الأندونيسية تستحق التأمل وهي حافلة بدروس مفيدة وحتى الجامعات هناك مثل جامعة "شريف هداية الله الإسلامية" مهتمة بنشر مفاهيم التسامح وفلسفة احترام الآخر في مجتمع متعدد الأعراق والديانات وإن كانت أغلبيته من المسلمين وفي ظل اقتناع وتوافق على الفلسفة العامة لهذا المجتمع وهي أن "قوته في تنوعه". ولئن كانت اندونيسيا تقدم صورة إيجابية لمجتمع يسير على طريق العمل والإنتاج والتنمية فالنموذج السنغافوري يقدم خبرات ثقافية ثمينة كنموذج للمجتمع الجاد والمتنوع. وسنغافورة التي اختتم الرئيس عبد الفتاح السيسي زيارته لها أمس الثلاثاء، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس مصري لهذا البلد، تعد نموذجا للتنوع والتعايش البناء بين أعراق مختلفة واستيعاب العديد من الديانات والثقافات كما أنها تقدم النموذج "لثقافة الإتقان والجدارة وتشجيع الأفكار المبتكرة وغير التقليدية". وفي سياق اجتماعه بالرئيس السنغافوري توني تان كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أثنى على مواقف سنغافورة المؤيدة لإرادة الشعب المصري ومشاركتها بمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي وافتتاح قناة السويس الجديدة مشيدا بالنجاح الاقتصادي الذي حققته تجربتها التنموية. ووفقا لما ذكره السفير علاء يوسف المتحدث الرسمي باسم الرئاسة فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي أكد خلال هذا اللقاء مع الرئيس توني تان أهمية قيمة التعايش السلمي وضرورة التصدي بقوة وفاعلية للإرهاب بآثاره المدمرة فكريا واقتصاديا موضحا أن أعمال القتل والتخريب هي أبعد ما تكون عن قيم الإسلام السمحة النبيلة التي تحض على الرحمة والتسامح وقبول الآخر. وكان الرئيس توني تان قد أكد على اتفاقه مع رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن مكافحة الإرهاب وتصويب الخطاب الديني مشيدا بمشروع قناة السويس الجديدة و"هي هدية مصر للعالم". ويبلغ عدد سكان سنغافورة نحو خمسة ملايين نسمة يعيشون في مساحة لا تتجاوز ال 700 كيلو متر مربع قوامها جزيرة رئيسية و50 جزيرة صغيرة أما اندونيسيا التي سيختتم الرئيس عبد الفتاح السيسي، جولته الأسيوية الحالية بزيارتها فتتكون من 17 ألف جزيرة غير أن عدد الجزر المأهولة بالسكان يبلغ ستة آلاف جزيرة. ومصر من أوائل الدول التي اعترفت بسنغافورة وساعدتها على الانضمام لحركة عدم الانحياز فيما تعد السفارة السنغافورية في القاهرة أقدم بعثة دبلوماسية لسنغافورة على مستوى العالم فيما كان الرئيس توني تان قد أشاد بدور الأزهر الشريف في تعليم طلاب العلم من بلاده موضحا أن هناك نحو 300 طالب سنغافوري يدرسون حاليا بالأزهر. وحرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على زيارة "مركز الوئام" التابع للمركز الإسلامي في سنغافورة وهو مركز يحظى بتجربة رائدة في تقديم صورة صحيحة للإسلام وتعزيز التسامح ودعم التفاهم والتعايش والتصدي للتعصب. وإذا كان الكثير من المثقفين المصريين يؤكدون الآن على أهمية الدروس المستفادة من مشروع قناة السويس الجديدة فيما قد يدور جدل حول تجارب ناجحة في دول أخرى فإن سنغافورة تشكل تجربة من أهم التجارب الناجحة في العالم اليوم ويعد ميناؤها كذلك من أهم الموانئ في العالم. وكان الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس قد عرض على المستثمرين والشركات الكبرى مشروعات منطقة شرق بور سعيد ومحور القناة الجديدة فيما شهدت الساحة المصرية مناقشات ثقافية حول إمكانية الاستفادة من " نموذج سنغافورة" مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات في المساحة والموقع وعدد السكان والموارد. وبلد في حجم الصين-وهي المحطة الثانية في الجولة الأسيوية الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي- سعى ويسعى لتعلم الدروس المستفادة من تجربة سنغافورة الناجحة في النمو التي أسسها لى كوان يو وهى تجربة ترتكز على ثقافة الإتقان ونهج العمل المنضبط والقضاء على الفساد بكل أشكاله والنظام القائم على الجدارة وهذا ما أدركه مبكرا الزعيم الصينى دينج شياو بينج وهو يطلق سياسات الانفتاح ويقارن بين التجارب التنموية الناجحة والأنسب لظروف بلاده. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد اشاد بحكمة الزعيم التاريخي لسنغافورة لي كوان يو وهو والد رئيس الوزراء الحالي لي هزين لونج منوها باهتمامه بالتصنيع كعنصر ضروري لعملية التنمية الشاملة فضلا عن حرصه على عدم الاعتماد على المساعدات الخارجية وتأكيده على أهمية الاستثمارات الوطنية. وأعرب رئيس وزراء سنغافورة عن عميق امتنانه لإشادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بوالده ودوره في تأسيس سنغافورة منوها باعتزاز بلاده بالدور التاريخي الذي قامت به مصر للاعتراف باستقلال سنغافورة وبعلاقات الصداقة الوطيدة التي جمعت بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والزعيم السنغافوري لي كوان يو. وفي أقل من نصف قرن حققت سنغافورة مستويات مثيرة للإعجاب في النمو والتنمية ونظام تعليمي يعد علامة على الجودة فيما يقدر الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدولة ب445 مليار دولار ويصل الدخل السنوي للفرد إلى 82 ألف دولار وقد أدرجت جامعتان من الجامعات السنغافورية ضمن قائمة افضل الجامعات على مستوى العالم. والحق أن التجربة السنغافورية وجذورها التاريخية تثير حتى اهتمام الثقافة الغربية وها هو كتاب جديد بالانجليزية صدر بعنوان:" رافلز والفرصة الذهبية" تتناول فيه المؤلفة فيكتوريا جليندينج تاريخ هذا البلد الأسيوى منذ بدايات القرن التاسع عشر ومرحلة السير ستامفورد رافلز ممثل شركة الهندالشرقية الاستعمارية. لكن الكتاب مفيد في التعرف على منابع النجاح الذي حققته سنغافورة حتى باتت دولة في حجم الصين تستلهم دروس النجاح من هذه "الدولة التي قد لا تزيد عن حجم مدينة صينية" وهى في الحقيقة نموذج لما يسمى "بالدولة المدينة أو المدينة الدولة" والأهم أنها نموذج مضىء لثقافة الإتقان. وإذا كانت "المنطقة الحرة " في مدينة بورسعيد قد أثارت منذ سنوات طويلة في سبعينيات القرن المنصرم آمالا بأن تكون "سنغافورة الشرق الأوسط" فان ثمة حاجة للتعمق في الثقافة التي انتجت تجربة سنغافورة وارتكزت على الإتقان والجدية. ولئن كانت مصر تتعرض لحرب نفسية وإعلامية من جانب قوى معادية تستخدم كل تقنيات العصر للنيل من خيارات شعب مصر بعد ثورة 30 يونيو، على وجه الخصوص فنظرة مقارنة لما تفعله هذه الصحف ووسائل الإعلام التي تشكل بعضها قلب ما يعرف بالإعلام الدولي مع دولة في حجم الصين ومحاولة استغلال قضايا حقوق الإنسان والحريات أو اضطرابات في منطقة كهونج كونج تكشف بلا عناء عن الأجندات والمقاصد الحقيقية لهذه الوسائط الصحفية والإعلامية المنتمية لثقافة ترى أن الغرب هو مركز العالم وينبغي أن يبقى كذلك دوما. فكل هذه الصحف ووسائل الإعلام الكبرى تنتمي لثقافة صراعية بامتياز ومستعدة في أي وقت لخوض صراع إعلامي بأدوات مهنية ذات احترافية عالية لضرب محاولات الصعود لقوى خارج إطار الثقافة الغربية سواء كانت في الصين أو العالم العربي ومصر في القلب منه. ولعل الزيارة الحالية التي يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي للصين مناسبة لقراءة ثقافية دالة في أفكار الدكتور انور عبد الملك الذي يكاد يكون في طليعة المثقفين المصريين الذين تنبهوا "لرياح الشرق الجديد" وأهمية أن تولى مصر والعالم العربى الاهتمام الكافى بالمشروع النهضوى الصينى وتستفيد منه دون تفريط في الخصوصية الثقافية-الحضارية. فمنذ خمسينيات القرن العشرين-دعا المفكر المصرى انور عبد الملك العالم العربى-الإسلامى للتفاعل مع الدائرة الحضارية الصينية فيما درس بعمق الحضارتين المصرية والصينية بنظرة ترنو لصعود الحضارة العربية-الإسلامية من جديد في المشهد المعاصر للعلاقات الدولية. و يرجع تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين إلى عام 1956 فيما كانت مصر هي أول دولة عربية وأفريقية تعترف بجمهورية الصين الشعبية التي كانت تجربتها في التحديث والنهضة موضع اهتمام العديد من المثقفين المصريين وفي مقدمتهم الدكتور انور عبد الملك. كما لفتت الاستجابة الصينية لتحديات عصر مابعد انتهاء الحرب الباردة في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي انظار الكثير من المثقفين المصريين والعرب وخاصة مسألة "المرونة الفائقة في التعامل مع المتغيرات" التي انقذت الصين من مآلات الانهيار ومصير الاتحاد السوفييتي الذي امسى في ذمة التاريخ. وعلى مدى سنوات طوال-كان الدكتور انور عبد الملك الذي قضي في السابع عشر من يونيو عام 2012 مهموما باشكالية النهضة في العالم الإسلامي وتجاوز الهيمنة الثقافية الغربية التي امتدت قرونا والبعد الحضارى الكامن وراء الصراعات الدائرة في العالم ومواجهات الغرب والشرق بينما كانت الصين تشكل بعدا اساسيا في أفكاره ورؤاه. وتبنى المفكر المصرى الراحل انور عبد الملك الذي ولد في القاهرة عام 1924 فكرة الدوائر الحضارية المتفاعلة مؤكدا وهو المسيحى الديانة واليسارى في أصوله الفكرية على أن "الإسلام يشكل الهوية الحضارية للأمة " كما ركز على مفهوم "الخصوصية الاجتماعية والحضارية". وفى هذا السياق قال الدكتور أنور عبد الملك إن "العالم العربى ينتمى إلى دائرة حضارية-ثقافية امتدت من المغرب إلى الفلبين " ولم يتردد في دعوة المثقفين العرب لأن يعرضوا عن "دعاة التنكر لواقعهم التاريخى والاجتماعى والثقافى" ليتجاوب مع دعوته المخلصة والبريئة من الهوى والمصلحة الخاصة المثقفين الوطنيين الذين يدركون أهمية المخزون الحضارى للأمة في تحقيق النهضة المنشودة. وإذ يوصف أنور عبد الملك بأنه "أحد بناة الضمير الوطني المصري المعاصر" فان رحلته في الحياة عبرت عن رسوخ التكوين الثقافي منذ أيام الصبا والتنشئة في أسرة مولعة بالفكر والثقافة ثم تتلمذه في قسم الفلسفة بجامعة عين شمس على يد المفكر عبد الرحمن بدوي وحصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة. ومن الدال أن أطروحته للدكتوراه كانت بعنوان:"نهضة مصر" كما أنه نحت مصطلح "الإسلام الحضاري" ليعبر وهو المسيحي المحب لكنيسته والمقدر دوما لدورها الوطني عن الرؤية الإيمانية المشتركة لكل المصريين". ولابد وأن روح هذا المثقف الوطني المصري الكبير وصاحب كتاب "ريح الشرق" حاضرة راضية بهذا التعاون البناء الذي دعا له دوما بين المصريين والصينيين فيما كانت مصر والصين قد وقعتا في سياق زيارة سابقة قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي لبكين على "وثيقة الشراكة الإستراتيجية الشاملة" وتشكل المجالات الثقافية تشكل أحد أبعاد هذه الشراكة التي لا تقيمها الصين إلا مع عدد محدود من دول العالم. إنها الصين التي قدمت نموذجا مغايرا للاشتراكية ليشهد الواقع حالة فريدة من التشابك بين المصالح الأمريكيةوالصينية حتى أن مفكرا إستراتيجيا في حجم زبجنيو بريجينسكى يرى أن أي أزمة داخل إحدى الدولتين يمكن أن تلحق أضرارا بالدولة الأخرى. إنها حالة الشراكة الغريبة والحيوية والاعتماد المتبادل بين نظامين مختلفين..إنه عالم جديد مغاير للسائد والمألوف وحافل بكل ماهو جديد ومختلف وهنا يتجلى أحد المعاني المهمة للجولة الأسيوية الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي..مصر المتسامحة والوفية لرسالتها الحضارية والمتفاعلة مع الآخر يمكنها أن تقدم الكثير في قلب هذا العالم الجديد ولصالح الإنسانية كلها.