على أنغام «دو رى مي» جلست بعض السيدات على كراسى اصطفت فى صالة واسعة، ممسكات بأدوات عزف مختلفة، عيونهن شاردة لا تعرف عن النور إلا اسمه، يتحسسن فى بطء «النوتة الموسيقية» المكتوبة بطريقة برايل.. أعمارهن بين 15 – 56، يعزفن مقطوعات عالمية ل«موتسارت» و«بيتهوفن»، دون رؤيتهن لعصا قائد الفرقة «المايسترو». فريق «أوركسترا» بطلاته من الكفيفات، جبن الكرة الأرضية وأدهشن العالم كله بإبداعهن على المسرح، ولأنهن الفرقة الوحيدة فى العالم المكونة من كفيفات يعزفن الموسيقى الغربية والشرقية المتطورة، فقد نالت جمعية «النور والأمل» إعجاباً عربياً وعالمياً وأصبحت سفيراً للمعاقين. فى هدوء جلست كبيرة الفرقة «سنا ومقاما»، من وجهة نظر العازفات، تستعد لعزف مقطوعة موسيقية ل«بيتهوفن»، بجلبابها البسيط وخمارها الطويل.. «زينب خليل» تجاوزت الخمسين من عمرها، شاء القدر أن يحرمها من بصرها، لتتحطم معه كل أحلامها بالأمومة، فلم تجد رفيقا إلا آلتى «الكمنجة» و«المزمار»، لتعبر من خلالهما عن موهبتها العظيمة فى العزف، سواء منفردة أو ضمن الفرقة الموسيقية، تقول «زينب»: «أنا أه كفيفة ومتجوزتش ومعنديش لا ضهر ولا سند وطول عمري عايشة لوحدي، لكن الموسيقى مصبرانى على حياتى وبتخلينى أعيش فى جو تاني، وكمان بقيت أحمد ربنا على النعمة اللى ربنا إدهالى دى عشان ميخلينيش أشوف أى حاجة وحشة، فبتخيل كل الحاجات الحلوة». «ماما وبابا جابونى هنا وأنا عندى 6 سنين تقريبا».. جملة واصلت بها «زينب» حكى قصتها: «اتعلمت الموسيقى من طفولتى، وكنت بزور أهلى كل أسبوع، لكن بعد ما ماتوا بقيت أروح لأخواتي، أبات عندهم وأرجع على الجمعية أدرب فى ورشة البامبو، بيبقى فيه معسكرات مغلقة عشان نركز ونتدرب كويس على البروفات عشان الأداء يتظبط، زى الأوبريت اللى بنحضرله دلوقتي». «زينب» جابت دولا كثيرة فى العالم العربى والغربي، لتمتع آذان الناس بعزفها الساحر الذى لا يختلف عليه أحد: «سافرت لندن وباريس وأمريكا وتايلاند والصين ودبى وأماكن كتير تانية وعرفتهم يعنى إيه فن وموسيقى مصرية». اختيار «زينب» للآلات التى تستخدمها لم يكن وليد الصدفة، بل اختارت كل آلة بعناية شديدة، فاختارت آلة «الكمان» حبا فى عزف الفنان أنور منسي، وبعد ذلك اختارت فتى أحلامها آنذاك الفنان الراحل «عبد الحليم حافظ»، وعلمت بمهارته فى العزف على المزمار، لتعزف على نفس الآلة، تقول: «كنت بسمع أغانى فيلم شارع الحب، وساعتها قررت أغير الآلة، وبقيت محترفة فيها، بالرغم إنى مش معايا غير الابتدائية وثانوى موسيقى من خلال الجمعية». بجوار «زينب» جلست «نوال» فى مكانها المخصص فى ترتيب الفرقة، ممسكة بآلة «الرق»، تضربها بأصابعها، ضربات بسيطة لتتناغم مع باقى العازفات.. «نوال على محمد» أصغر فتاة فى أوركسترا «النور والأمل»، ولدت كفيفة، لكن لديها بصيرة وأمل وتطلع للمستقبل البعيد: «عندى انفصال فى الشبكية، ورحت عند دكاترة كتير أوى لكن ربنا لم يرد إنى أشوف معنى الحياة، بس أنا مؤمنة إن نور عينى هيرجعلى تانى فى الآخرة عشان أشوف الجنة». «نوال» كانت تعزف مقطوعة «المماليك» للموسيقار محمد عبد الوهاب مع زميلاتها الكفيفات فى جو من المودة: «الموسيقى عشقى الوحيد وهى الحاجة الوحيدة اللى بتخلينى أشوف نور فى عينى محدش شايفه غيري».. الفتاة الصغيرة لا تعزف على «الرق» فقط، بل تعزف على كل آلات الإيقاع والأورج، توضح: «بعرف أعزف على النوتة، وعندى أورج فى بيتى بتدرب عليه لوحدي، واتعلمت ألحن أغانى عبد الحليم كلها لوحدي».