قفازات، قطن مبلل بمواد مطهرة، ماكينة يظهر على طرفها إبرة، وبعض عبوات الأحبار الملونة، أدوات متراصة أمام «دقاق الوشم»، وفى الخلف يتراص محبو رسم «التاتو» كل في دوره، رجل يضع ذراعه بين يدى الدقاق ليوشمه بألوان مختلفة، وفتاة تتألم من وخز الإبر ليُرسم لها «تاتو». أنواع مختلفة من الوشوم تختلف معها الأشكال والجودة بين دق صليب على يد الأطفال، وطلاسم غريبة الشكل ونقوشات متنوعة ما بين أسماء وحيوانات ورموز لها دلالات في أنفس أصحابها، يختارونها بعد رحلة طويلة من التفكير والمقارنة والاقتناع.. ف«الوشم» بعد رسمه يصبح جزءًا أصيلًا من الجسد لا يفارقه إلا بعد حيل عصيبة، «البوابة» دخلت إلى عالم رسم الوشوم تستكشف أسرار الراسم والشغوفين بالوشوم، أشكالها ومعانيها ودلالاتها لدى محبيها وهم بين يدى «دقاق التاتو». غلوّ الأحبار سبب ارتفاع تكلفته «أسامة» رسّام الوشم: زبايني مصريين وعرب و«عبدة شيطان» داخل محل صغير تزينه مرايا عاكسة.. في أحد جنبات شوارع منطقة شبرا الهادئة، يجلس أسامة أيوب ممسكا أدواته ويرسم وشما على ذراع أحد زبائنه وهو يصب كل تركيزه في «شغلانته»، فيما يقف مساعده «ماجد» يناوله الألوان المختلفة من الحبر، وفى الخلفية تجلس فتاة على كرسى في انتظار دورها. «أسامة» رجل أربعينى من حى شبرا، يحكى عن عمله في رسم الوشم منذ أكثر من عشر سنوات.. حينما بدأ عمله في مدينة شرم الشيخ بعد عودته من أمريكا حاملا «صنعة» رسم «التاتو»، وبعد ضعف التواجد السياحى في شرم الشيخ انتقل لافتتاح محل في منطقة شبرا بالقاهرة عقب ثورة 25 يناير «المحل ده كان صالون حلاقة، وأنا عدّلته وحولته لمكان رسم تاتوهات، وزباينى مصريين وأجانب». «الأجانب الموجودين حاليا ميأكلوش عيش» كلمات يوضح بها «أسامة» أسباب تركه عمله في شرم الشيخ«اليابانيينوالأمريكان والإنجليز كانوا بييجوا مصر قبل الأحداث، وكانوا من دول أقوى اقتصاديا من الأجانب الموجودين حاليا، وعشان كده السياحة ضعفت وسبت شغلى هناك وجيت». يشرح «رسام التاتو» خطوات عمله.. حيث يبدأ بوضع البنج الموضعى مكان «الوشم»، ثم يبدأ الرسم باستخدام إبر متنوعة ومختلفة الاستخدام منها الرفيع والعريض، ومنها ما يرسم ما يشبه الدخان على الجلد، وبعد انتهاء الرسم يصف لزبائنه أنواعًا محددة من الكريمات والمضادات الحيوية لمنع الالتهابات- بحسب توضيح «أسامة» حالة نفسية وبدنية معينة يجب أن يصل إليها «صانع التاتو».. تبدأ بأن يأخذ قسطا كافيا من النوم والراحة، والوصول لحالة مزاجية جيدة وتركيز قبل أن يرسم وشما على جسد أحد زبائنه «مقدرش أرسم رسمتين ورا بعض، لازم أرتاح وأكون فايق لأنى بشتغل في لحم ودم، ولأن أي غلطة أثناء الرسم بتبقى مشكلة»- وفقا لكلام الفنان أسامة. «تاتو يمكن إزالته بعد 6 أشهر أو سنة» إشاعة انتقدها «أسامة» ورفض ترويج بعض صانعى التاتو لها «التاتو مبيتشالش ولما حد بييجى يعمل تاتو بقول له اتأكد إنك حابب تعمل تاتو لأنه هيفضل عليك على طول»، مؤكدا أن عمليات «الليزر» المكلفة هي السبيل الوحيد لإزالة الوشم. أشكال كثيرة ومتنوعة من الوشم يطلبها الزبائن منها العادى ومنها الغريب، وأكثر الأنواع انتشارا هي الأسماء- كما يقول «أسامة»، الذي يوضح: «فيه ناس بتحب تكتب أسامي، زى واحد بيطلب يكتب اسم بنته أو مراته، أو واحد يرسم اسم النادي اللى بيشجعه»، النوع الثانى هو- وشم- يصف برج صاحبه مثل رسمة الأسد أو العقرب أو الثور، إضافة إلى أشكال فراشات أو قطط أو كتابات بلغات مختلفة لها مدلولات عند أصحابها. «جماجم غريبة.. أسماء شياطين.. قرون.. ونجمة داوود» بعض الأشكال الغريبة التي يطلبها زبائن يصفهم الفنان أسامة ب«عبدة الشياطين»، ويقول إنهم من جنسيات مختلفة أجانب وعرب «فيه مصريين اتعلموا يبقوا عبدة شياطين من الأجانب، بيطلبوا أشكال كتير غريبة وأنا برسمها وما ليش دعوة بمدلولاتها»، إضافة إلى «الطلاسم» التي يطلبها بعض الزبائن، بعضها «طلسم» الحماية من الشر والسحر وحسن الحظ والقوة وطول العمر والخلود وأنواع أخرى- وفقًا ل«أسامة». «تغطية آثار الحروق.. العمليات الجراحية.. وتعديل وشوم قديمة» استخدمات أخرى ل«التاتو»- يوضحها «أسامة»، مضيفا أن الأكثر انتشارا وشيوعا هي وشوم لتغطية وتعديل وشوم مرسومة سابقًا على الجسم «فيه ناس بتحب تغيّر شكل التاتو، أو بدل ما يرسم واحد جديد في مكان مختلف يعمل وشم تغطية وبيبقى كأنه عمل «تاتو جديد»، والنوع ده مش أي حد شغال في التاتو بيعمله لأنه يحتاج موهبة وخيالا. أحجام مختلفة من «التاتو» تتباين أسعارها فتتراوح ما بين 250 و3000 جنيه- بحسب «أسامة»، الذي يعلل ارتفاع أسعاره باستيراد الأدوات المستخدمة في عمله.. قائلا: «الإبرة الواحدة تمنها 150جنيها، والحبر باستورده بأسعار غالية من اليابانوأمريكا، غير مصاريف الشحن والجمارك». يكشف «الفنان الأربعيني» فارق السعر بين الوشوم التي يصنعها وبين وشوم الموالد المسيحية: «التاتوهات اللى على شكل صليب اللى بتترسم في الموالد المسيحية بتبقى بأدوات مصنوعة محليا تحت بير السلم وبيترسم بيها أشكال جودتها ضعيفة، إنما الإبر اللى أنا بشتغل بيها احترافية والشكل اللى بيطلع منها بيبقى أحسن بكتير وجودته عالية». «تاتو بيكو».. شخصية وعنوان على جسد متحرك رسومات تزين ذراعى الشاب العشريني، في الشارع يسير فيحسبه البعض أجنبيًا، بينما يمرقه البعض الآخر، أما هو.. يشعر بأنه يحمل هويته، فخور برسوماته التي أصبحت جزءًا منه على مدى 7 سنوات، يفكر - بيكو إبراهيم - أن يغطى يومًا جسده برسومات «وشم» تعبر عن حياته وتشكل له عالمه الخاص. منذ طفولته يحب «بيكو» شكل «التاتو»، قائلا: «كنت بمسك القلم وأرسم على إيدى وألعب بيه ولما كملت 18 سنة قررت إنى هعمل أول تاتو»، حيث استغرق الشاب أكثر من عامين لاختيار رسمته الأولى، فلم يكن الأمر بالنسبة له هينًا «كان لازم أختار رسمة تمثلنى وتعبر عنى علطول، عمرها ماهتتغير فيا ولا أزهق منها، قعدت أدور على الرسومات، ولما بقيت عندى 21 سنة عملت أول تاتو.. معناه الروح وجواه حرف ب، عشان اسمى» - بحسب «بيكو». الرسمة الأولى كانت خطوة البداية في رحلة «تاتو بيكو»، فبعد نحو عام حصل «إبراهيم» على الوشم الثانى «عملت رسمة أصلها أيرلندى معناها القوى، على نص دراعى اليمين، وبعد نحو سنة عملت اسم أمى بالعربى ورسمة على شكل حرية عبارة عن طير مرسوم من حروف حرية، وأخيرًا كتبت كلمة Family comes first اللى معناها العائلة تأتى أولًا لأن عيلتى هما أحلى حاجة في حياتي» - بحسب كلام «صاحب الوشم». التاتو يظل لصيقًا براسمه للأبد، لا ينفصل عنه سوى بعمليات ليزر لا يلجأ إليها إلا القليل، ولذلك اختار الشاب العشرينى رسوماته بعناية، «كل تاتوهاتى شخصية وبتخصنى عشان مندمش يوم قدام وأقول عايز أشيلها» يقول «بيكو» الذي يعانى من نظرات الاستغراب والرفض في الشارع. «أهلي عمرهم ما كان عندهم مشكلة، الناس بس في الشارع ردود أفعالهم مختلفة، اللى بيسألنى بكام، واللى يقولى ده حرام إزاى تعمل كده، ويستغفر في وشى، وفيه بيقول إنت بتعبد الشيطان، ومرة واحد سألنى انت مصارع».. يضحك «بيكو» وهو يتذكر عدم تقبل الناس ل«التاتو» بسبب الأفكار المغلوطة عنه - بحسب رأيه. «عم مجدي».. دقاق «التاتو الشعبى» في مصر القديمة في منطقة مجمع الأديان بمصر القديمة وتحديدًا في ساحة كنيسة العذراء «أبى سرجة»، لافتة عليها «يوجد هنا دق صلبان وصور قديسين»، وعلى بعد خطوات منها جلس مجدى غبريال، أمامه طاولة وضع عليها أدواته.. إبر رفيعة وماكينات لرسم الوشم، وبعض من الأدوات الطبية البسيطة، وحوله تجمع كبار وصغار ينتظرون دورهم ل«دق الصليب» أو «رسم التاتو». منذ 25 عاما.. بدأ «مجدي» عمله راسمًا للوشم أو «دقاق» كما يُطلق عليه، أصبح وجهه مألوفًا لدى كل من يمر بالكنيسة، يناديه سكان المنطقة «عم مجدي»، «كنت بقعد جمب اللى بيدقوا صلبان وأركز بيعملوا إيه، ولما بطلوا ينزلوا يشتغلوا واختفوا، نزلت أنا وعلمت نفسى بالممارسة وطبقت اللى شفته وبقت شغلانتى الأولى والأخيرة» - يقول «دقاق الوشم». ماكينة صغيرة لرسم الوشم.. يغير «مجدي» الإبرة الأمامية بها لكل زبون - على سبيل النظافة والأمان، «هاند ميد» هكذا يصف «الرجل الأربعيني» ماكينته المحببة التي صنعها بيده «فيه مكنة تانية معايا مشتريها، بس أنا عملت دى بنفسى وبستخدمها أكتر، أرخص ومكوناتها بسيطة ومبتكلفنيش غير الحبر وإبرة عادية وأهم حاجة يكون فيها تردد عشان تظبط الرسمة» بحسب وصف «العم مجدي»، مع بداية رسوماته على أيادى الأطفال تتعالى صرخات الأطفال الموجوعين، حيث لم تستغرق عملية رسم «التاتو» سوى دقيقة واحدة باستخدام الماكينة، إجراءات تطهير وتنظيف يقوم بها «الدقاق» بعد الرسم بالقطن والمطهرات، ووصايا يقولها لما بعد «الدق» مفادها: «نص ساعة واغسلوا إيده بميه»، «لازم تطهير الرسمة عشان تبان وتوضح، وميحصلش عدوى أو نقل أمراض» - بحسب «مجدي». عشرات الشباب تجمعوا حول «عم مجدي» منتظرين انتهاءه والتفرغ لرسوماتهم: «أغلب الرسومات بتكون صلبان للأطفال، بس أنا برسم للكبار صور قديسين وكلمات» - يقول الرجل الأربعينى بينما يختار الزبون واحدة من الرسومات الموضوعة أمامه على هيئة «كلاشيهات»، يملأ «مجدى» فراغاتها بالحبر ويضعها على أعلى الذراع ضاغطًا بيديه حتى يطبع الصورة لترشده في عمله «الصور الكبيرة مبينفعش أعملها من دماغى بحتاج اسطمبة أحددها على الجسم وأمشى عليها بالإبرة عشان مغلطش» - بحسب قول «الدقاق». رسومات على الأصابع وأخرى على الأذرع وغيرها على الظهر، أما الأغرب فهو «الدق بين الحاجبين»، يوضح العم مجدى: «كل مكان في الجسم بيختلف درجة وجعه، بس فيه ست طلبت منى أعملها رسمة بين حواجبها وكانت صعبة وغريبة بالنسبالي»، فعلى الرغم من عدم استخدامه للبنج لا بد من احتمال الألم «لو حد اتحرك الشغل كله يبوظ، الوشم محتاج دقة وصبر وتحمل الوجع، والموضوع مبياخدش وقت ومبيوجعش زى مالناس فاكرة يعنى». شباب مسلمون يأتون ل«عم مجدى» بصحبة أصدقائهم مسيحيين لدق الوشم، يخفون آثارًا لعملية جراحية أو يكتبون أسماءهم، يتفاخرون بين أصدقائهم بقدرتهم على الاحتمال وعدد الرسومات التي تزين أجسادهم، أسعاره هي الأرخص مقارنة بمحال «رسم التاتو» - وفقًا لكلامه، أحد الشباب المنتظرين يوضح الفارق بين أنواع «التاتوهات» من وجهة نظره كزبون.. قائلا: «ده تاتو شعبي، إنما التانى مش موجود غير في المناطق الراقية وغالى علينا». يمسك «الدقاق» بقلم جاف ويحدد مكان الرسمة وشكلها «لو رسمة بسيطة زى فرع شجر بحددها بالقلم الجاف، لكن الكلمات بكتبها من دماغى علطول، وطبعا لازم تكون إيدى ثابتة مفيش أي مجال للغلط» - بحسب «مجدي». «بيوجع طبعا بس بقدر أستحمله، فيه ناس بترسم رسومات أكبر منى بكتير».. يقولها «حسن» وهو قيد الرسم بين يدى «عم مجدى»، وعلى وجهه تظهر علامات الألم، ليرد عليه أحد أصدقائه: «إحنا لينا أصحاب دقوا صورة لأم كلثوم وخناجر وسيوف، معانا كشكول كامل كله رسومات عايزين نعملها، والموضوع كله روشنة وموضة». تصريح من شرطة السياحة يحصل عليه «مجدي» للوقوف في هذه المنطقة الأثرية، يلزم بالعمل في شكل معين، وعدم الخروج عن التقاليد، منها: ممنوع رسم الخناجر والسيوف أو كتابة جملة خارجة عن المألوف، «أي كنيسة فيها رسم وشم بيغلب عليها الصور الدينية أو الرسومات البسيطة، لكن إحنا كمان الشرطة بتشرف علينا مينفعش نخالفها عشان السياحة والآثار وشكل البلد قدام الأجانب» - يقول «الدقاق» الذي يأتى لمجمع الأديان يومى الجمعة والأحد من كل أسبوع وفى الأعياد المسيحية أيضا، أما بقية أيام الأسبوع فيمارس مهنته في الطلبات الخاصة أو صالونات التجميل. مجنون «التاتو» «كريم».. يغطى جسده ب47 رسمة والبقية تأتي يظن من يراه للوهلة الأولى أنه مصارع معروف أو ملاكم محترف، أشكال عديدة من الرسومات تغطى جسده وتخفى ملامح جلده الأصلى، برغم خوفه الشديد من ألم «إبر الوشوم»، إلا أن كريم أشرف قرر أن يكسى جسده بالوشوم بعد رسم أول «تاتو» على ذراعه. «كريم» شاب عشرينى يحكى عن رحلة «دق التاتو».. يقول إنه يحلم برسم وشم منذ الثانية عشرة من عمره أسوة بالمصارعين المحترفين، إلا أن إبر دق الوشم لم تخترق جلده إلا في العشرينات من عمره بعد أن شجعه أحد أصدقائه على رسم «تاتو» صغير، لم يتألم أثناء رسمه فقرر تغطية باقى الجسم بالوشوم «كنت خايف من الوجع بس لما جربت أول مرة لقيت الألم بسيط باستخدام البنج الموضعي» - وفقا لكريم. «جمجمة، سكينة، كلمة لا رحمة وطلسم حماية» مقتبسات مما رسمه «كريم» على جسده، موضحًا أن لكل وشم هدفًا أو قصة مستقلة «أنا بحب رشاش اسمه B013 رسمته، وكاتب بعض أسامى ناس قريبة من قلبى، وفيه بعض التاتوهات ليها مدلول خاص عندي». لم يعر «كريم» انتباهًا لنظرات الاستغراب التي تلاحقه حين يمشى وعلى ذراعيه وشوم بالكاد يظهر منها جلده، ولا حتى الكلمات التي يصدرها الناس إعجابًا بوشومه أو استياءً منها، ويوضح: «بلاقى تعليقات وتريقة واستغراب من الناس لما بمشى في الأماكن العادية في القاهرة، إنما لما بسافر الساحل أو بروح أصيف الناس بتشوفنى عادى لأن كل الشباب بترسم تاتوهات بس مش كتير كده». النسخة الورقية