إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم "لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خانني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، أن لا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر أن لا أكتب ما أكتب". تبقى كلمات فرج فودة، رائد التنوير المُعاصر في مصر، باقية حتى بعد أن رحل جسده إثر الاغتيال على يد اثنين من متطرفي الجماعات الإسلامية، كانا ممن راعهم حديث فودة عن التغيير، وعن فصل الدين عن الدولة، فهو ممن تصدوا إلى خطر تنامي الجماعات الإسلامية، وكان مُدافعًا عن الدين وضد إقحامه في السياسة، على عكس من رموه بالكفر واتهموه بالإلحاد لأنه أراد أن يُعمل المسلم عقله، لا أن يسير خلف الآخرين. ولد فودة الكاتب في 20 أغسطس عام 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط، وهي البلدة التي ارتبطت بشكل ما بتاريخ مواجهة الجماعات الإسلامية في مصر؛ فهي مسقط رأس إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس الوزراء الذي خلف النقراشي باشا عقب اغتياله على يد التنظيم الخاص للإخوان المسلمين، واغتيل في عهده حسن البنا مؤسس الجماعة، وينتمي إليها كذلك الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب الأسبق الذي اغتيل على يد الجماعات الإسلامية؛ والتحق بكلية الزراعة، وحصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد الزراعي في يونيو 1967، وتم تعيينه مُعيدًا بكلية الزراعة جامعة عين شمس، وحصل على الماجستير في الاقتصاد الزراعي عام 1975 ثم على درجة دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس عام 1981. "إن علينا جميعا واجبا أساسيا وتاريخيا، وهو أن نترك لأبنائنا مناخا فكريا أفضل، وهو أمر لا يتأتى إلا بمواجهة الإرهاب الفكري بكل الشجاعة والوضوح والحسم". استقال فودة من حزب الوفد الذي كان واحدًا من داعميه لعدم قدرته على إفشال التحالف الذي تزعمه صلاح أبو إسماعيل، وعمل على نجاح الوفد في الحصول على 15% من مقاعد مجلس الشعب، وبعد ذلك حاول تأسيس حزب سياسي تحت مسمى حزب "المستقبل"، ولكن لجنة شئون الأحزاب في مجلس الشورى رفضته مرتين، فخاض انتخابات برلمان 1987 مستقلًا عن دائرة شبرا؛ وبعد تحالف الوفد والإخوان المسلمين في انتخابات البرلمان عام 1987 تنبأ فوده بخطر هذا التحالف، وأكد أن تأثيره على الدولة من الخطورة بحيث يستدعي المواجهة، وسط ظروف صعبة كانت تمر بها البلاد، فلم تكن ذكرى اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات قد ابتعدت عن الأذهان، كذلك الفوضى التي أحدثتها اضطرابات الأمن المركزي، والتي استدعت تدخل الجيش للسيطرة على الموقف ماثلة أمام الجميع؛ في الوقت نفسه كانت الجماعة تعمل على التغلغل في مؤسسات الدولة ونشر الرجعية في ربوع مصر، وذّكر فودة الجميع بأن التيار الإسلامي قد تعلم من خطأه في الدورة السابقة من الانتخابات، والتي خاضها الإخوان الساعيين إلى تحقيق الإرهاب بالشرعية، متجاهلين التعاون مع جماعات الإرهاب المسلح التي سعت إلى ضرب الشرعية بالإرهاب. "ويمكننا أن ندرك حجم ما حدث من تغيير في فكر أعضاء تنظيم الجهاد، إذا قارنا ما سبق، بحديث مفتيهم ومنظرهم وإمامهم عمر عبد الرحمن لجريدة الشعب قبيل الانتخابات، عن أنه يؤيد التحالف، وأكثر من ذلك؛ فإن أشهر أمراء الجماعات في المنيا قد رشح نفسه على قائمة التحالف ودافع عن شعاراته وراياته، وأصبح عضوًا في المجلس بالفعل، وزامل في عضويته أعضاء آخرين، كانوا أمراء للجماعات الإسلامية وقت أن كانوا طلابًا، وأصبحوا ممثلين لهذا التيار في نقاباتهم المهنية، كذلك فإن الحملة الانتخابية للتحالف تم تمويلها عن طريق بيوت توظيف الأموال الإسلامية". "البعض يهرب لشعاب الجبال، ويرى الصاروخ فيتحسر على الناقة، ولا يرى في حضارة الغرب الا شذوذا ودعارة، ومجونا وخلاعة، وفسقا وزنا، وهو في تكراره لهذة الألفاظ يلفت أنظارنا إلى ما يهتم به، ويدغدغ حواسه، ويملأ عليه نهاره أحلام يقظة". في عام 1989 نشر فودة كتابه "النذير" كدراسة لمعالجة الدولة لنمو التيار الإسلامي ما بين عامي 1982 و1987، وتضمن الكتاب مجموعة من الحقائق منها أن التيار الإسلامي قد نجح بالفعل في تكوين دولة موازية يتمثل اقتصادها في شركات توظيف الأموال، وجيشها في الجماعات المسلحة، وكيانها السياسي ا في مكتب إرشاد الإخوان الذي استمر علانية رغم حظر الجماعة قانونًا، وأشار أيضًا إلى اختراق التيار الإسلامي المؤسسة الدينية الرسمية، وهو ما وضح في دعوة شيخ الأزهر للناخبين لإعطاء أصواتهم للمطالبين بتطبيق الشريعة، ومطالبة جريدة اللواء الإسلامي التي يصدرها الحزب الوطني الديمقراطي -الحزب الحاكم آنذاك- للمواطنين بعدم التعامل مع البنوك القومية وقصر تعاملاتهم على البنوك الإسلامية. عندها قال فودة "هذا التنامي الهائل في ظل الإعلان الدائم عن تصدي الدولة لهذه التيارات، وتحت شعارات ورايات مواجهة التطرف السياسي الديني، وأن ينجح تيار ما في التنامي في ظل الغفلة، فإن ذلك يعتبر نجاحًا مبررًا، أما أن ينجح في ظل التنبيه وإعلان المواجهة، فإن النجاح هنا يعتبر نجاحًا مضاعفًا للتيار السياسي الديني، بقدر ما هو فشل مضاعف للدولة"، وشبّه صعود التيار الديني في مصر بصعود النازية في ألمانيا من حيث نظرات الاستعلاء والعنصرية، واستخدام العنف، والعودة إلى الجذور، وكتب وقتها يؤكد أن "ما يحدث في مصر الآن، وما اعتمدته التجربة النازية للوصول إلى الحكم بعد فشل المواجهة، يتمثل في التسلل إلى المؤسسات القائمة، واستخدام الديمقراطية لإسقاطها في النهاية واستغلال ضعف هيبة الدولة، واستثمار المعاناة من الأزمة الاقتصادية". كان فودة يرى أن انعدام وجود برنامج سياسي لدى التيار الإسلامي هو أكبر خطر على مستقبل مصر، وهو ما يحيله فكريًا إلى قصور في فكر الاجتهاد لدى أنصار هذا التيار، وكتب أن هذه الدولة الإسلامية تحتاج إلى برنامج سياسي يعرض تفصيلًا وتأصيلا للعموميات والجزئيات، ووصفهم مرة أخرى بأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به "وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وإن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر." كانت مواجهة فودة الكبرى على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992، حيث جرت مناظرة تحت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، واجه فيها الشيخ محمد الغزالي، ومأمون الهضيبي مرشد الإخوان، والدكتور محمد عمارة، بينما سانده الدكتور محمد خلف الله، وأدار المناظرة سمير سرحان رئيس إدارة الهيئة العامة للكتاب، وأثارت المناظرة جدال واسع واستغرقت ثلاث ساعات، وقال فودة خلالها "لا أحد يختلف على الإسلام الدين، لكن المناظرة اليوم حول الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين والإسلام الدولة، رؤية واجتهاد، فالإسلام الدين في أعلى عليين، أما الإسلام الدولة فهو كيان سياسي وكيان اقتصادي وكيان اجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم، فمن ينادون بالدولة الدينية لا يقدمون برنامجا سياسيا للحكم، أما الأقوال العامة والحكم والشعارات فهي لا تغنيما نشهده من أنصار الدولة الدينية ونحن على البر قبل أن يقيموا دولتهم، لم نر إلا إسالة الدماء وتمزيق الأشلاء والسطو على المحال العامة وتهديد القانون وتمزيق الوطن بالفتن، إذا كانت هذه هي البدايات فبئس الخواتيم، الوحدة الوطنية وحضارة الإنسان تأبى الدولة الدينية، لأن هذا الوطن مهما قلتم في النسب 95% أو 90% لا يقبل منا أحد أن ينقسم وأن يشعر فريق من المواطنين قل أو كثر بالخوف من أن يحكم بعقيدة الآخرين ويشعر فريق آخر بالزهو بحكمه لعقيدته". في 8 يونيو عام 1992، وقبيل أيام من عيد الأضحى، انتظر كل من أشرف سعيد إبراهيم، وعبد الشافي أحمد رمضان، وهما من شباب الجماعة الإسلامية، على دراجة بخارية أمام مقر "الجمعية المصرية للتنوير" في شارع أسماء فهمي بمصر الجديدة حيث مكتب فرج فودة؛ وفي الساعة السادسة والنصف مساء، عند خروج فودة من الجمعية بصحبة ابنه أحمد وأحد أصدقائه، وأثناء توجههم لركوب سيارة فودة، انطلق أشرف إبراهيم بالدراجة البخارية وأطلق عبد الشافي رمضان الرصاص من رشاش آلي، فأصاب فرج فودة إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، بينما أُصيب صديقه وابنه إصابات طفيفة، وانطلق القاتلان هاربين، ولكن سائق سيارة فودة انطلق خلفهما وأصاب الدراجة البخارية وأسقطها قبل محاولة فرارها إلى شارع جانبي، وسقط عبد الشافي رمضان وارتطمت رأسه بالأرض وفقد وعيه. عقب وصول فودة للمستشفى بدأت جراحة استمرت لمدة 6 ساعات، شارك فيها 6 أطباء، إضافة إلى طبيب التخدير، تحت إشراف الدكتور حمدى السيد، نقيب الأطباء الأسبق، والذي وصف العملية بأنها واحدة من أصعب العمليات الجراحية التي يمكن أن يواجهها فريق طبى في العالم، ووصف الوضع بأن"الرصاص كان في كل جزء، والجسد كان ممزقًا تمامًا، لكن القلب كان لا يزال ينبض"؛ ووسط محاولات عديدة ذهبت دون جدوى، لفظ فودة أنفاسه الأخيرة في الساعة الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي، بعد أن توقف قلبه عن النبض، وفشلت جميع محاولات تنشيطه.