إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم اشتهر ابن عربي في كل بلاد المسلمين كأحد أقطاب الصوفية، وواحد من فرسان العشق الإلهي، وشاعر ممن انتشرت أشعارهم للجميع، وقد اختلف الناس في عقيدته، وفي الحكم عليه، أشدّ الاختلاف، فبعضُهم رفعه إلى عِلّيين، وبعضهم وضعه مع الزنادقة والملحدين؛ كما لقّبه أتباعه ومريدوه من الصوفية بألقاب عديدة، منها "الشيخ الأكبر، رئيس المكاشفين، البحر الزاخر، بحر الحقائق، إمام المحققين، سلطان العارفين". ولد محي الدين محمد بن على بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي في مدينة مرسية من أب مارسي وأم أمازيغية، كان أبوه على بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن إعلام الزهد والتقوى والتصوف، وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ في جو ملئ بالتقوى والعلم؛ ثُم انتقل والده إلى إشبيلية إحدى عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، وما كاد لسانه ينطق حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع قراءات في كتاب الكافي، وعندما أتم العاشرة من عمره بارزًا في القراءات، وقيل أنه كذلك كان مُلهمًا في المعاني والإشارات، وبعدها سلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه تنقل بين البلاد واستقر أخيرا في دمشق. قيل أن ابن عربي مرض في شبابه مرضًا شديدًا، وفي أثناء شدة الحمي رأى في المنام أنه مُحاط بعدد ضخم ممن يريدون الفتك به، وبغتة رأى شخصًا جميلًا قويًا مشرق الوجه، حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرقها ولم يبق منها أي أثر، فسأله محيي الدين "من أنت؟"، فأجاب بأنه سورة يس؛ وعلي أثر هذا أستيقظ فرأي والده جالسا إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس. ثم لم يلبث أن برئ من مرضه، وألقي في روعه أنه مُعّد للحياة الروحية، وآمن بوجوب سيره فيها إلى نهايتها، وهو ما فعله. تعددت رحلات ابن عربي التي تلقى فيها وألقى فيها العلم؛ ففي عام 595 هجرية كان ابن عربي في غرناطة مع شيخه أبي محمد عبد الله الشكاز يتلقى منه العلم، بعدها بدأ رحلاته الطويلة المتعددة إلى بلاد الشرق، ووصل إلى مكة التي استقبله فيها شيخ إيراني معه اسرته التي التقى فيها بفتاة تدعى نظامًا، وهي ابنة ذلك الشيخ، فاتخذها ابن عربي رمزًا ظاهريًا للحكمة الخالدة، وأنشأ في تصوير هذا الرمز قصائد سجلها في ديوان "ترجمان الأشواق" الذي ألفه في ذلك الحين، كما قام كذلك بتأليف كتابه "الجامع الخالد الغزوات المكية" الذي ضمن فيه أهم آرائه الصوفية والعقلية ومبادئه الروحية؛ ثم زار الطائف، وكذلك بيت عبد الله بن العباس ابن عم رسول الله "ص"، ثم ارتحل إلى الموصل، حيث تلقى تعاليم الصوفي الكبير على بن عبد الله بن جامع، الذي تلقى لبس الخرقة عن الخضر مباشرة، ثم ألبس محيي الدين إياها بدوره، وفي نفس العام زار قبر رسول الله، وكما قال "وقد ظلمت نفسي وجئت إلى قبره صلي الله عليه وسلم فرأيت الأمر على ما ذكرته، وقضى الله حاجتي وانصرفت ولم يكن قصدي في ذلك المجيء إلى الرسول إلا هذا الهجير". "من قال بالحلول فدينه معلول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد". استمرت رحلات ابن عربي، حيث سافر إلى القاهرة مع فريق الصوفية، ثم عاد إلى مكة وأقام فيها ثلاثة أعوام، ثُم عاد إلى دمشق وزار قونية بتركيا، حيث تلقاه أميرها السلجوقي باحتفال ضخم، وتزوج هناك بوالدة صدر الدين القونوي، ثم لم يلبث أن يرتحل إلى أرمينيا؛ وعاد إلى بغداد ليلتقي بها شهاب الدين عمر السهروردي الصوفي الشهير؛ ولم يلبث بعدها أن عاد إلى مكة، ووجد عدد من فقهائها يحدثون الناس بهدف تشويه سمعته بسبب القصائد التي نشرها في ديوانه الرمزي منذ ثلاثة عشر عامًا، فمر إلى دمشق عائدا، لكنه لم يقض فيها الكثير، وبعد ذلك رحل إلى حلب، وأقام فيها ردحًا من الزمن مُعززًا مُكرمًا من أميرها؛ حتى استقرت إقامته في دمشق، حيث كان أميرها أحد تلاميذه، ومن المؤمنين بعلمه ونقائه. عاش ابن عربي حياته في دمشق يؤلف ويعلم، وكان واحدًا من كبار العلماء بين أهل العلم والفقه في دمشق، فدّون وكتب مراجعة ومؤلفاته، وكان له مجلس علم وتصوف في رحاب مجالس دمشق، وبين علماء الفقه والعلم بدمشق ومدارسها، وكان يختلف في مذهبه الفقهي مع آخرين، واجتهد كثيرًا لنفسه حتى وصل إلى قناعته، ويبدو في بعض رسائله التي قال في إحداها "فيا إخوتي وإحبائي رضي الله عنكم، أشهدكم عبد ضعيف مسكين فقير إلى الله في كل لحظة وطرفة، أشهدكم على نفسه بعد أن أشهد الله وملائكته، ومن حضره من المؤمنين وسمعه أنه يشهد قولا وعقدا، أن الله إله واحد، لا ثاني له وألوهيته منزهة عن الصاحبة والولد، مالك لا شريك له في الملك ولا وزير له، صانع لا مدبر معه، موجود بذاته من غير افتقار إلى موجد يوجده، بل كل موجود سواء مفتقر إليه الله في وجوده فالعالم كله موجود به، وهو وحده متصف بالوجود لنفسه، ليس بجوهر متحيز فيقدر له مكان ولا بعرض فيستحيل اليه البقاء ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء، مقدس عن الجهات والأقطار، مرئي بالقلوب والأبصار". كتب ابن عربي مخطوطات تجاوزت 67 مخطوط من كتبه منها "تفسير ابن عربي" ويضم تفسيره للقرآن، "الفتوحات المكية"، والمكوُن من سبعة وثلاثين سفر ووخمسمائة وستون باب، والذي وُصف بأنه من النصوص الصوفية الموغلة في التعمق وأن به لغة رمزية، "فصوص الحكم"، وهو الكتاب الذي أثار جدلًا كبيرًا في وقته، ديوان "ترجمان الأشواق" الذي خصصه لمدح نظام بنت الشيخ أبي شجاع، "شجرة الكون" ويتحدث فيه عن الكون مشبهًا إياه بشجرة أصلا كلمة "كٌن"، "الإعلام بإشارات أهل الإلهام"، وكتاب "اليقين" الذي تناول موضوع اليقين الذي حير عديد من فلاسفة ذلك العصر.