مع سقوط أشبيليه، إحدى آخر معاقل الحضارة العربية بالأندلس بأيدي الإسبان بعد حصار دام عاماً وخمسة أشهر، لم تفلح معها جهود بقايا دولة الموحدين في إنقاذ المدينة؛ وصاحب سقوط المدينة تحويل مسجدها الجامع الواقع بالحي الملكي المحُصّن فيها إلى كنيسة؛ والذي كان آية في الفن والزخرفة الإسلامية. تم تشييد الجامع إبان خلافة الموحدين في عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف، الذي أمر ببدء أعمال البناء به، وكان يرغب في أن يحُاكي جامعه الجامع العتيد لقرطبة سعة وارتفاعا وزخرفة، وقيل أن أساسات جدرانه حفرت حتى ظهر الماء من باطن الأرض، ثم وضعت الأساسات من آجر وجص وأحجار، وتولى شيخ عرفاء البناء أحمد بن باسه قيادة أعمال التشييد فيه ومعه نخبة من البنائين من أهل الأندلس، وفاس، ومراكش، وظل العمل قائماً لمدة أربع سنوات افتتح بعدها الجامع للصلاة بحضور الخليفة يوسف وولي عهده الخليفة الناصر. وقد أودع الفنانون نتاج العبقرية الفنية الأندلسية في فنون الزخرفة بالجص والرخام في قبة المحراب، التي جاءت عملاً فنياً متكاملاً من وثاقة البناء وإحكامه وجمال الزخارف الثرية في القبة التي تعد أجمل قباب العمارة الإسلامية، ثم شُيدت المئذنة لتكون حسب طلب الخليفة أعلى من مئذنة جامع قرطبة، ثم زودت لاحقاً بأربع تفافيح مذهبة تخليداً لانتصار الموحدين على الإسبان في موقعة الأرك الشهيرة. وعقب سقوط أشبيلية تحول الجامع ليُصبح "كنيسة سانتا ماريا"، وتحولت المئذنة لبرج لأجراس الكنيسة، قبل أن تزود لاحقاً بدوارة للرياح على هيئة تمثال، ولذلك عرفت باسم "الخير الدا"، أي دوارة الرياح؛ كما تعرَّضت أروقة الجامع لتغييرات فنية من قبل الملوك الإسبان لإقامة مصليات وأضرحة مختلفة، فشيد بظلة القبلة المصلى الملكي، ثم قبر يضم رفات فرناندو الثالث ملك قشتالة، وقبر آخر لجثمان كريستوفر كولومبوس مكتشف الأمريكتين؛ ولكن ظل للجامع شخصيته الإسلامية، سواء في زخارفه الداخلية الثرية، أو واجهات عقود ظلات الصلاة به، والتي لم تتغير بشكل جوهري عن حالها عند تشييده في عهد الموحدين.