امرأة استطاعت أن تحفر اسمها في كتب التاريخ بحروف من ذهب، فملامحها جزء من تاريخ مصر وتراثها، اجتمع فيها العقل المستنير مع قوة الإرادة، ما جعلها تستحق عن جدارة لقب "أم المصريين"، فهى نموذج فريد للمرأة القوية المؤمنة بوطنها وحقه في الحرية والنجاح والارتقاء، جاهدت كثيرا من أجل ما أمنت به حتى صارت رمزا للنضال، فعلى صوتها دفاعا عن المرأة في الوقت الذي منعت فيه النساء من الكلام. إنها صفية زغلول كما يعرفها التاريخ، ولدت في عام 1878 لأسرة ارستقراطية، وهى ابنة "مصطفى فهمي" من أوائل رؤساء وزراء مصر منذ أن عرفت البلاد نظام الوزارة في أوائل القرن التاسع عشر، وكان رجلا ارستقراطيا من أصل تركي، وكان معروفًا عنه أنه صديق الإنجليز الوفي، وعندما تولى الوزارة لأول مرة في مايو سنة 1891، اعتبر الإنجليز أنهم قد أخضعوا مصر سياسيًا بعد أن أخضعوها عسكريًا قبل ذلك بتسع سنوات عام 1882. تزوجت من سعد زغلول وكان مجرد فلاح مصري بعد توسط في خطبتها "قاسم أمين" لتوافق على الزواج من الفلاح البسيط الذي تحول على يدها إلى وزيرًا و"زعيم أمة"، بعد أن كان نائبًا، وكان ضمن الوفد الذي استقبل اللورد "كرومر" قبل أن يتحول لقيادة ثورة 1919. لقُبت بعد زواجها باسم "صفية زغلول" نسبة إلى زوجها، لتبدأ معه رحلة كفاح ونضال وحياة غير تقليدية، كانت تؤمن بقضيته، وكان عطائها متدفق من أجل قضية الوطن العربي والمصري خاصة، وعندما قرر "سعد زغلول" أن يهب حياته للنضال الوطني قال لزوجته "لقد وضعت رأسي على كفي الأيمن" فكانت إجابة زوجته "صفية زغلول"، "وأنا أضع رأسي على كفك اليسرى. حملت "صفية زغلول" لواء ثورة 1919 مع زوجها وخرجت على رأس المظاهرات النسائية من أجل المطالبة بالاستقلال، إلى أن تم نفي "سعد زغلول" إلى جزيرة "سيشل"، عندها طلبت "صفية زغلول" أن ترافق الزوج والمناضل في منفاه، الحكومة البريطانية رفضت في أول الأمر لكن عندما شعر الاحتلال الانجليزي بخطورة وجود "صفية زغلول" بين صفوف المصريين تشجعهم وتحثهم على النضال من أجل الاستقلال، قرر الاحتلال أن يسمح لها بالسفر لمرافقة الزوج، وعندئذ رفضت وقررت البقاء بمصر لمواصلة النضال قائلة، "واجبي نحو بلادي أهم من واجبي نحو زوجي"، وأصدرت "صفية" بيانًا عقب نفى "سعد" قالت فيه، "إن كانت السلطة الإنجليزية الغاشمة قد اعتقلت سعد، فإن شريكة حياته السيدة صفية زغلول تشهد الله والوطن على أن تضع نفسها في نفس المكان الذي وضع زوجها العظيم نفسه فيه من التضحية والجهاد من أجل الوطن، ولذلك تعتبر نفسها في هذه اللحظة أمًا لكل أولئك الأبناء الذين خرجوا يواجهون الرصاص من أجل الحرية"، وبعد أن ألقت سكرتيرتها البيان هتف أحد قادة المظاهرة "تحيا أم المصريين"، ومن يومها اكتسبت "صفية زغلول" لقب "أم المصريين". في عام 1921 خلعت "صفية زغلول" النقاب لحظة وصولها مع زوجها إلى الإسكندرية، فكانت أول زوجة لزعيم سياسي عربي تظهر معه في المحافل العامة والصور دون نقاب، لكن "سعد" كان يمنحها الحرية الكاملة لثقته بها، وفى ذلك الوقت تعالت القليل من الأصوات التي أرادت النيل منها واتهامها بازدراء الدين، لكنهم فشلوا في ذلك والتف الجميع حولها وحول قضيتها في تحرير المرأة. وفي عام 1924، عندما تولى "سعد زغلول" رئاسة الوزارة وتوالت الوفود إلى "بيت الأمة" لتهنئته وزوجته رفيقة درب كفاحه، قالت لهم: "يجب أن تقدموا لي العزاء وليس التهنئة، لأن سعد زغلول هو زعيم الأمة، وهو الآن في مكان أقل بكثير، فما قيمة رئاسة الحكومة مقابل زعامة الأمة؟"، وعندما استقال "سعد زغلول" من رئاسة الوزارة استقبلته صفية زغلول مبتهجة قائلة، "هذا أسعد يوم في حياتي، مهمتنا الكفاح وليس تولي المناصب". كان بيت صفية زغلول هو بيت الأمة الذي تربى فيه الكثير من المناضلين والمفكرين السياسيين والكُتاب أمثال "على أمين" و"مصطفى أمين"، وكانت "صفية" بمثابة الأم والمعلم ل"على أمين" وأخيه "مصطفى" اللذان تربيا تحت رعايتها في بيت خال والدتهما "سعد زغلول"، فاعتبرته الأمة كلها في ذلك الوقت ملتقي ومنارة للثقافة والوعي والنضال، وشيد عام1931. بعد رحيل سعد زغلول في 23 أغسطس عام 1927، عاشت صفية عشرين عامًا لم تتخل فيها عن نشاطها الوطني لدرجة أن رئيس الوزراء وقتها "إسماعيل صدقي" وجه لها إنذارًا بأن تتوقف عن العمل السياسي، إلا أنها لم تتراجع، وكأن شيئا لم يكن، إلى أن لحقت بزوجها، في 12 يناير 1946.